روايه انت لي الحلقه 34 و 35

9 12٬930
 

روايه انت لي الحلقه 34 و 35

روايه انت لي الحلقه 34

روايه انت لي الحلقه 34 و 35

روايه انت لي الحلقه 34 و 35 , معكم صديقة زاكي الشيف الموهوبة ,leen
رواية انت ليالحلقة الرابعة و الثلاثون

لأنني كنت أريد أن أبتعد عنه، و عن أروى التي تقترب منه أكثر يوما بعد يوم، و لأنني أصبحت بإحباط شديد بعد نزول الثروة المفاجئة على أروى، و تعلّقها أكثر و أكثر بوليد، رفضت متابعة سفري معه…

لم أعد أحتمل المزيد، إن الذي ينبض بداخلي هو قلب و ليس محرك سيارات! لا أحتمل رؤية أروى معه، أختنق كلما أبصرتها عيني، أريدها أن تتحول إلى خربشة مرسومة بقلم الرصاص، حتى أمحوها من الوجود تماما بممحاة فتّاكة!

وليد ، و أروى و أمها، و أفراد عائلة خالتي ، كانوا جميعا يقفون ناظرين إلي، و أنا أكرر :

” سأبقى هنا بقية عمري ”

وليد وقف أولا صامتا، ذلك الصمت الذي يستلزمه استيعاب الأمور، ثم قال :

” مستحيل ! ”

نشبت مشادة فيما بيننا، وتدخلت خالتي، و حسام و نهلة، واقفين إلى صفي، يطلبون من وليد تركي معهم..إلا أن وليد قال بغضب :

” هيا يا رغد فأنا متعب ما يكفي و أريد أن أرتاح ”

بدأت العبرات تتناثر من مقلتي على مرأى من الجميع، و رقت قلوب أقاربي لي، و ساورتهم الشكوك بأنني غير مرتاحة مع ، أو لا ألقى معاملة حسنة من قبل وليد !

قالت خالتي :

” دعها تبات عندنا الليلة على الأقل، و غدا نناقش الأمر ”

قال وليد :

” رجاء ً يا خالتي أم حسام، إنه أمر مفروغ منه ”

قالت خالتي :

” و لكنها تريد البقاء هنا ! هل ستأخذها قهرا ؟ ”

قال وليد :

” نعم إذا لزم الأمر ”

و هي جملة رنت في الأجواء و أخرست الجميع، و أقلقتهم !

حتى أنا، ( ابتلعت ) دموعي و حملقت فيه بدهشة منها !

يأخذني معه رغما عني ؟ يمسك بي قهرا و يشدني بالقوة، أو يحملني على ذراعيه عنوة، و يحبسني في السيارة !

تبدو فكرة مضحكة ! و مثيرة أيضا !

و لكن يا لسخافتي ! كيف تتسلل فكرة غبية كهذه إلى رأسي في لحظة كهذه !

حسام قال منفعلا :

” ماذا تعني ؟؟كيف تجرؤ !؟ ”

رمقه وليد بنظرة غاضبة و قال بحدة :

” لا تتدخّل أنت ”

قال حسام مستاء :

” كيف لا ؟ أ نسيت أنها ابنة خالتي ؟ نحن أولى برعايتها منك فأمي لا تزال حية أطال الله في عمرها ”

تدخّل أبو حسام قائلا :

” ليس هذا وقت التحدّث بهذا الشأن ”

التفت إليه حسام و قال :

” بلى يا والدي، كان يجب أن تحضر إلى هنا منذ شهور ، لولا الحظر الذي أعاق تحركنا ”

وليد تحدّث بنفاذ صبر قائلا :

” هل تعتقد أنني سأقبل بهذا ؟ ”

حسام قال حانقا :

” ليست مسألة تقبل أم لا تقبل ! هذا ما يجب أن يحدث شئت أم أبيت، كما و أنها رغبة رغد ”

و التفت إلي، طالبا التأييد، كما التفت إلي وليد و الجميع !

قلت بتحد:

” نعم، أريد العيش هنا مع خالتي ”

وجه وليد تحوّل إلى كتلة من النار… الأوداج التي تجانب عنقه و جبينه انتفخت لحد يخيل للمرء إنها على وشك الانفجار !

عيناه تقذفان حمما بركانية حامية !

رباه !

كم هو مرعب ! يكاد شعر رأسي يخترق حجابي و يشع من رأسي كالشمس السوداء !

قال :

” و أنا، لن أبتعد عن هذا المكان خطوة واحدة إلا و أنت معي ”

في لحظة حاسمة مرعبة هذه، يتسلل تعليق غبي من ابنة خالتي الصغرى، حين تقول :

” إذن .. نم معنا ! ”

جميعنا نظرنا إلى سارة نظرة مستهجنة، تلتها نظرة تفكير، تلتها نظرة استحسان !

قال خالتي :

” تبدو فكرة جيّدة ! لم لا تقضون هذه الليلة معنا ؟ ”

وليد اعترض مباشرة، و كذلك أروى … و بعد نقاش قصير، نظر إلي وليد و قال :

” لهذه الليلة فقط ”

معلنا بذلك موافقته على المبيت في بيت خالتي، و إصراره على عدم الخروج من الباب إلا و أنا معه !

يا لهذا الوليد ! من يظن نفسه ؟؟ أبي ؟ أمي ؟ خطيبي ؟؟

لو كان كذلك، ما تركني تائهة وسط دموعي في بيتنا المحروق، بحاجة لحضن يضمني و يد تربّت على كتفي، و وقف كالجبل الجليدي، يتفرّج علي …

أخرجت لنهلة كل ما كبته في صدري طوال تلك الشهور…حتى أثقلت صدرها و رأسها، و نامت و تركتني أخاطب نفسي!

كذلك نام الجميع، و مضى الوقت… و أنا في عجز كلي عن النوم، و وليد يلعب فوق جفني ّ ، لذا نهضت عن السرير، و ذهبت إلى الطابق السفلي، بحثا عن وليد !

كنت أدرك أنني لن أتمكن من النوم و لن يهدأ لي بال حتى أراه…

لمحته جالسا في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أثناء ( شجارنا ) و كان يبدو غارقا في التفكير العميق…

انسحبت بحذر، إذ إنني لم أكن أريد الظهور أمامه.. فظهوري سيفتح باب للمشادة !

لكني، بعدما رأيته، أستطيع أن أنام قريرة العين !

( نوما هنيئا..يا وليد قلبي ! )

جملة أكررها كل ليلة قبيل نومي , مخاطبة بها صورة وليد المحفورة في جفنيّ…

و التي أعجز عن محوها و لو اقتلعت جفني من جذورهما…

~ ~ ~ ~

وافقت كارها على قضاء الليلة في بيت أبي حسام، و لم أنم غير ساعتين، لأن أفكاري كانت تعبث بدماغي طوال الوقت.

ماذا إن قررت صغيرتي البقاء هنا ؟

أتعتقد هي أنني سأسمح بهذا ؟؟

مطلقا يا رغد مطلقا .. و إن كان آخر عمل في حياتي، فأنا لن أدعك تبتعدين عني…

ما كدت أصدّق، أنك ِ تحررت ِ من أخي… الطيور.. يجب أن تعود إلى أعشاشها…

مهما ابتعدت، و مهما حلّقت…

مهما حدث و مهما يحدث يا رغد.. أنت ِ فتاتي أنا…

تناولنا فطورنا في وقت متأخر، الرجال في مكان و النساء في مكان آخر… و حين فرغنا منه، طلبت أم حسام أن تتحدّث معي حديثا مطوّلا، فجلسنا أنا و هي، و ابنتها الصغيرة في غرفة المجلس… و كنت أعلم مسبقا عن أي شيء سيدور الحديث !

” وليد يا بني.. إن ما مرّت به رغد لهي تجربة عنيفة، احترق بيتها، و تشردت ، ثم مات والداها، ثم انفصلت عن خطيبها، و عاشت في مكان غريب مع أناس غرباء ! هذا كثير على فتاة صغيرة يا بني ! ”

التزمت الصمت في انتظار التتمة

” إنه لمن الخطأ جعلها تستمر في العيش هناك، إنها بحاجة إلى رعاية (أمومية و أبوية).. لذلك يجب أن تبقى معنا ”

هزت رأسي اعتراضا مباشرة… فقالت أم حسام :

” لم لا ؟ ”

” لا يمكنني تركها هنا ”

” و لكن لماذا ؟ إنه المكان الطبيعي الذي يجب أن تكون فيه بعدما فقدت والديك، مع خالتها و عائلة خالتها، التي تربت بينهم منذ طفولتها”

قلت مستنكرا :

” لا يمكن ذلك يا أم حسام، الموضوع منته ”

استاءت أم حسام و قالت :

” لماذا ؟ أترى تصرّفك حكيما ؟؟ تعيش معك أنت، ابن عمّها الغريب، و زوجته و أمها الأجنبيتين، و تترك خالتها و ابنتي خالتها !؟ ”

وقفت من شدة الانزعاج من كلامها … كيف تصفني بالغريب ؟؟

” أنا ابن عمّها و لست بالرجل الغريب ”

” و ابن عمّها ماذا يعني ؟ لو كان سامر لكان الأمر مختلفا .. بل إنه حتى مع سامر لا يمكنها العيش بعدما انفصلا . أنت لست محرما لها يا وليد ”

استفزّتني الجملة، فقلت بغضب:

” و لا حسام و لا أباه ! ”

أم حسام ابتسمت ابتسامة خفيفة و هي تقول :

” لكنني هنا ! ”

” و إن ْ ؟ … أروى و أمها أيضا هناك ”

” لا مجال للمقارنة ! إنهما شخصان غريبان ، و أنا خالة رغد ، يعني أمها ”

قلت بنفاذ صبر :

” لكنك لست ( المحرم ) هنا ! لن يغيّر وجودك و ابنتيك شيئا ! ”

أم حسا صمتت برهة ثم قالت :

” إن كانت المشكلة في ذلك، فحلّها موجود، و إن كان سابقا لأوانه ”

الجملة دقّت نواقيس الخطر في رأسي، فقلت بحذر و بطء :

” ماذا … تقصدين ؟ ”

أم حسام قالت :

” كان يحلم بالزواج منها منذ سنين، فإن هي وافقت على ذلك، أصبح حسام و رغد زوجين يعيشان معا في بيت واحد ! ”

كنت أتوقع أن تقول ذلك ، و أخشاه.. اضطربت و تبدّلت تعبيرات وجهي ، و استدرت فورا مغادرا الغرفة

حين بلغت الباب سمعتها تناديني :

” وليد ! إلى أين ! ؟ ”

استدرت إليها و النار مشتعلة من عيني و صدري، لم أكن أريد أن أفقد أعصابي لحظتها و أمام أم حسام.. لكنني صرخت :

” سآخذها و نغادر فورا ”

و تابعت طريقي دون الاستجابة إلى نداءاتها من خلفي

و من أمامي، رأيت حسام، واقفا على مقربة، ينتظر نتاج اللقاء الودي بيني و بين أمه

لما رآني في حال يوحي للناظر بشدة انفعالي، و رأى أمه مقبلة من بعدي تناديني ، سأل بقلق :

” ماذا حصل ؟ ”

لم يجب أينا، الجواب الذي كان بحوزتي لحظتها هي لكمة عنيفة توشك على الانطلاق من يدي رغما عني، كبتها عنوة حتى لا أزيد الموقف سوء ً

التفت ّ الآن إلى الصغيرة سارة و طلبت منها استدعاء رغد و أروى و الخالة ليندا

” اخبريهن بأننا سنغادر الآن ”

و ركضت الفتاة إلى حيث كن ّ يجلسن .. في إحدى الغرف .

أم حسام قالت :

” وليد ! يهديك الله يا بني ، ما أنت فاعل ؟ ”

أجبت بحنق :

” راحل مع عائلتي ، و شكرا لكم على استضافتنا و جزيتم خيرا ”

حسام خاطب أمّه :

” هل أخبرتِه ؟ ”

أجابت :

” نعم ، و لكن … ”

و نظرت إلي، فحذا هو حذوها ، و قال :

” هل أخبرتك أمي عني و عن رغد ؟ ”

اكتفيت هذه المرّة بنظرة حادة فقأت بها عينيه…

بدا مترددا، لكنه قال :

” منذ زمن كنت أفكّر في … ”

و هذه المرّة صرخت في وجهه بشدّة :

” لا تفكّر في شيء و ابق حيث أنت ”

الاثنان تبادلا النظرات المتعجّبة … و المستنكرة

ثم نطق حسام :

” و لتبق رغد معي أيضا، فأنا أرغب في الزواج منها بأسرع ما يمكن، و بما أنك هنا.. يمكننا أن … ”

و في هذه المرة، و بأسرع ما يمكن ، و بعد انفلات أعصابي تماما، تفجرت اللكمة الدفينة في يدي، نحو وجه حسام ، بعنف و قسوة…

ربما الصدمة مما فعلتـُه فاجأت حسام أكثر من الضربة نفسها، فوقف متسمرا محملقا في ّ في دهشة و ذهول !

كنت لا أزال أشعر بشحنة في يدي بحاجة إلى التفريغ ! و ليتني أفرغتها فورا في أي شي.. حسام، الجدار، الأرض ، الشجر، الحجر ، الحديد … أي شيء.. و لا أن أكبتها لذلك الوقت… …

عادت سارة، و معها أروى و أمها

نقلت نظري بين الثلاث و لم أكد أسأل ، إذ أن الصغيرة قالت :

” رغد تقول : ارحلوا ، فهي لن تأتي معكم أبدا ! ”

تحدّثت أروى الآن قائلة :

” إنها مصرّة على البقاء هنا و اعتقد، أنها تشعر بالراحة و السعادة مع خالتها و ابنتيها ! ”

و استدارت إلى أمها متممة :

” أليس كذلك أمي ؟ ”

قالت خالتي ليندا :

” بلى، مسكينة ، لقد مرّت بظروف صعبة جدا، لم لا تتركها هنا لبعض الوقت يا وليد ؟ ”

عند هذا الحد، و ثار البركان…

الجميع من حولي يقفون إلى صفها ضدّي، الكل يطلب مني ترك رغد هنا.. و يرى أنه التصرف السليم، و قد يكون كذلك، و قد يصدر من إنسان عاقل ، أما أنا..في هذه اللحظة فمجنون، و حين يتعلّق الأمر برغد فأنا أجن المجانين…

سألت الصغيرة سارة :

” أين هي ؟ ”

أشارت إلى الغرفة التي كانت النساء يجلسن فيها

قلت :

” أ أستطيع الدخول ؟ ”

فنظرت إلي الصغيرة سارة ببلاهة ، أشحت بأنظاري عنها و نظرت إلى أروى محوّلا السؤال إليها ، و كررت :

” أ أستطيع الدخول ؟ ”

قالت أروى :

” أجل … ”

و سرت ُ نحو الغرفة ، و أنا أنادى بصوت عال مسموع :

” رغد … رغد ”

حتى أنبهها و ابنة خالتها إلى قدومي..

طرقت الباب، ثم فتحته بنفسي، و أنا مستمر في النداء…

الجميع تبعني، و رموني بنظرات مختلفة المعاني، لا تهمني، كما لا يهمكم سردها هنا

وجدت صغيرتي واقفة و إلى جانبها ابنة خالتها، و على وجهيهما بدا التوتر و القلق…

قلت :

” رغد، هيا بنا … ”

هزّت رأسها اعتراضا و ممانعة ، فقلت بصوت جعلته أكثر حدّة و خشونة :

” رغد ، هيا بنا، سنرحل فورا ”

رغد تكلّمت قائلة :

” لن أرحل معكم ، اذهبوا و اتركوني و شأني ”

رفعت صوتي أكثر و قلت بلهجة الإنذار الأخير :

” رغد، أقول هيا بنا ، لأنه حان وقت الرحيل، و أنا لن أخرج من هنا إلا و أنت معي ”

قالت رغد بتحد ٍ :

” لن أذهب ! ”

في هذه اللحظة، استخدمت بقايا الشحنة المكبوتة في يدي ..التي حدّثتكم عنها.. على حبيبة قلبي ، رغد

أسرعت نحوها، و أمسكت بذراعها بعنف، و شددتها رغما عنها و أجبرتها على السير معي نحو الباب …

من حولي كان الجميع يهتف و يستنكر و يعترض ، و لكنني أبعدت ُ كل من حاول اعتراض طريقي بعنف، و دفعت حسام دفعة قوية صفعته بالجدار

أم حسام حاولت استيقافي و صرخت في وجهي ، و مدّت رغد ذراعها الأخرى و تشبثت بخالتها، و بابنة خالتها ، و بكل شيء…إلا أنني سحبتها من بين أيديهم بقسوة

أروى و أمها حاولتا ثنيي عما أقدمت عليه فكان نصيبها زجرة قوية مرعبة فجّرتها في وجهيهما كالقنبلة…

نحو المخرج سرت و لحق بي حسام و البقية من بعده فأنذرته :

” عن طريقي ابتعد لأنني لا أريد أن تصيبك كسور أنت في غنى عنها ”

” من تظن نفسك !؟ اترك ابنة خالتي و إلا .. ”

استخرجت المفتاح من جيبي و فتحت باب السيارة المجاور لمقعد السائق، و دفعت رغد عنوة إلى الداخل ، و أقفلته من بعدها .

و الآن.. علي ّ أن ألقّن حسام درسا ، ليعرف جزاء من يتجرّأ على خطبة حبيبتي منّي …

كنت أنوي إيساعه ضربا، إلا أن تدخّل من حولي جعلني أكتفي ببعض اللكمات التي لا تسمن و لا تغني من جوع، و لا تخمد بركانا جنونيا ثار في داخلي بلا هوادة .

وسط المعمة و البلبلة و الصراخ و الهتاف، و استغاثة رغد و ضرباتها المتتالية لنافذة السيارة ، و الفوضى التي عمّت الأجواء، التفت أنا إلى أروى و الخالة ليندا و هتفت بقوة :

” ماذا تنتظران ؟ هيا إلى السيارة ”

و توجّهت إليها باندفاع، فركبتها و فتحت الأقفال لتركب الاثنتان، و أوصدها مجددا، و أنطلقت بسرعة …

قطعنا مسافة طويلة، و نحن في صمت يشوبه صوت محرّك السيارة، و صوت الهواء المتدفق من فتحة نافذتي الضيقة، و صوت بكاء رغد المتواصل…

لم يتجرّأ أحد على النطق بكلمة واحدة… فقد كنا جميعا في ذهول مما حصل..

لم أتخيّل نفسي… أقسو على صغيرتي بهذا الشكل..ولكن .. جن جنوني لفكرة أنها باقية مع حسام، أو صائرة إليه…

و إن كان آخر عمل في حياتي، فأنا لن أسمح لأحد بأخذ رغد منّي مهما كان..و مهما كانت الظروف.. و مصيرك يا رغد لي أنا…

” أما اكتفيت ِ بكاء ً ؟ هيا توقّفي فلا جدوى من هذر الدموع … ”

قلت ذلك بأسلوب جاف ، جعل أروى تمد يدها من خلفي، و تلامس كتفي قاصدة أن أصمت و أدع رغد و شأنها…

صمت ّ فترة لا بأس بها، بعدها فقدت أي قدرة لي على التركيز في القيادة، و أنا أرى رغد مستمرة في البكاء إلى جانبي…

أوقفت السيارة على جانب الطريق، و التفت إليها …

كانت تسند رأسها إلى النافذة، في وضع تخشع له قلوب الجبابرة..فكيف بقلب وليد ؟؟

” صغيرتي … ”

ألقت علي نظرة إحباط و خيبة أمل أوشكت معها أن أستدير و أعود أدراجي و أوصلها إلى بيت خالتها … إلا أنني تمالكت نفسي …

” رغد … أنا آسف … ”

لم تعر جملتي أية أهمية، و ظلت على ما كانت عليه…

” أرجوك يا رغد.. قدّري موقفي، لا أستطيع تركك في مدينة و أسافر أنا إلى أخرى ! إنك تحت مسؤوليتي و لا يمكنني الابتعاد عنك ليلة واحدة ”

لم أر منها أي تجاوب، مددت يدي بعد تردد و أمسكت ُ بيدها ، فسحبت يدها بقوة و غضب :

” اتركني … ”

قلت :

” لا أستطيع أن أتركك في أي مكان … ”

رغد أجابت بانفعال :

” و أنا لا أريد الذهاب معك ! أهو جبر ؟ أهو تسلّط ؟ لا أريد السفر معك … أعدني إلى خالتي .. أعدني إلى خالتي .. ”

و أجهشت بكاء قويا …

قلت أنا :

” سنعود لزيارتها حين ننهي مهمتنا ، و سنبقى هناك القدر الذي تريدين ”

صرخت رغد :

” أريد العيش معهم مدى الحياة ! ألا تفهم ذلك ؟ ”

اشتط غضبي من هذه الجملة، فأمسكت بيدها مجددا و شددت قبضتي عليها و قلت بحدة و أنا أضغط على أسناني كأني أمزّق حقيقة أكرهها بين نابي ّ :

” لن أدع لك الفرصة لتحقيق ما يدور برأسك.. و أقسم يا رغد.. أقسم بأنه ستمضي سنون خمس على الأقل، قبل أن أسمح لأي رجل بالزواج منك .. و إن كان ابن خالتك يطمع بك، فلينتظر هو بالذات عشر سنوات حتى أسمح له بطرح الفكرة ، و إن تجرأ على إعادة عرضه ثانية قبل ذلك .. فوالذي لم يخلق في داخلي قلبين اثنين، لأقننه درسا يُنسيه حروف اسمه … و دون ذلك، لن يبعدك شيء عني ّ غير الموت.. الموت و الموت فقط ”

لم أدرك تماما خطورة ما تفوّهت به ، إلا بعد أن رأيت رغد تحملق بي بذهول شديد، و قد تبخّرت الدموع التي كانت تجري على وجنتيها.. و ألجم حديثي لسانها و منعها حتى عن التأوّه من شدة قبضي على يدها…

ربما أكون قد كسرت أحد عظامها أو حرّكت أحد مفاصلها .. لقد كنت أضغط بقوة شديدة… أصابت عضلات يدي أنا بالإعياء…

سكون تام خيّم علينا، ما عاد هناك صوت للمحرك، و لا للهواء ، و لا لرغد، و لا لأي شيء آخر..

حررت يد رغد من قبضتي، فرأيتها محمرّة.. و بالتأكيد مؤلمة…

إلا أن رغد لم يظهر عليها الألم، و لم تسحب يدها بعيدا عني ، كما لم ترفع عينيها المذهولتين عن عيني …

 

~~~~~~~~

 

طوال الأشهر الماضية، كنت أنظر إلى خطيبي وليد نظرة إعجاب شديد، أكاد معها أجزم بأنه أفضل رجل على وجه الأرض، و لا أرى منه أو فيه أي عيب أو نقص…

و كانت جميع خصاله و طباعه تعجبني، و سلوكه و تصرفاته كلها مثار إنبهاري ..

و في هذا اليوم، رأيت شيئا أذهلني و فاجأني…

لم أتصوّر أن يكون وليد بهذا التسلّط أو هذه القسوة ! لم أتوقع أن يصدر منه أي تصرّف وحشي.. كنت أراه إنسانا هادئ الطباع و مسالما… و عظيم الخلق…

الطريقة التي سحب بها رغد رغما عنها، و الطريقة التي زجرنا بها حين حاولنا ثنيه عما كان مقبلا عليه، و الطريقة التي لكم بها حسام بوحشية، و الطريقة التي خاطب بها رغد و نحن في طريقنا الطويل إلى المدينة الساحلية، كلها أثارت في قلبي الخوف و الحذر…

و ذكّرتني، بأن خطيبي هذا قد قتل شخصا ما ذات يوم … !

كان الطريق إلى المدينة الساحلية طويلا جدا، و مملا جدا … و قد سيطر الصمت الموحش علينا نحن الأربعة …

والدتي سرعان ما نامت، و بقيت أنا أراقب الطريق، و أحاول النظر إلى وليد ، إلا أنه كان مركزا على الطريق تركيزا تاما، و كان يسير بسرعة مخيفة !

” هللا خففت السرعة يا وليد ! ”

طلبت منه ذلك، فقد شعرت بالخوف من انفعاله … لكنه لم يخففها بل قال :

” طريقنا طويل جدا … أجدر بي زيادتها ”

ثم التفت إلى رغد، و التي كانت مشيحة بوجهها نحو النافذة و مسندة رأسها إليها ، و خاطبها قائلا :

” اربطي حزام الأمان ”

لم أر من رغد أي حركة ، أهي نائمة ؟ أم لم تسمع ؟ أم ماذا ؟؟

عاد وليد يقول :

” رغد .. اربطي حزام الأمان ”

رأيتها تتحرك، ثم سمعتها تقول :

” لماذا ؟ هل تنوي أن تصدمنا بشاحنة أو جبل ؟ ”

بدا على وليد ، من نبرة صوته ، نفاذ الصبر و الاستياء، إذ قال :

” لا قدّر الله ، فقط اربطيه للسلامة ”

قالت رغد :

” لا تخش على سلامتي ! مرحبا بالموت في أي وقت .. أنا انتظره بشوق ”

الجملة هذه أربكت وليد فانحرف في مسيره قليلا و أفزعنا ! ثم خفف السرعة تدريجيا، حتى أوقف السيارة… و التفت إلى رغد قائلا :

” توقّفي عن ذكر الموت يا رغد.. تجرّعت منه ما يكفي.. إياك و تكرار ذلك ثانية ”

لم تعقّب رغد، بل أسندت رأسها إلى النافذة من جديد…

قال وليد :

” اربطي الحزام ”

قالت :

” لن أفعل ! ”

” رغد ! هيا ! ”

” لن أربطه ! ”

” إذن، أنا سأربطه ! ”

و رأيت وليد يمد يده باتجاه الحزام، ثم رأيتها ترتد بسرعة إليه! أظن أن رغد دفعتها بعيدا ، ثم سمعت صوت اصطكاك لسان الحزام بفكّه !

لقد ربطته بنفسها !

ثم سمعت وليد يقول :

” فتاة مطيعة ”

و يعاود الانطلاق بالسيارة بأقصى سرعة !

بعد فترة، توقّف وليد عند إحدى محطّات الوقود، من أجل الوقود، و الطعام، و الصلاة…

خاطبنا مشيرا إلى مبنى على جانبنا :

” يوجد هنا مصلى للسيدات، حينما تفرغن عدن إلى السيارة ، ثم نذهب إلى المطعم ”

أنا و والدتي فتحنا البابين الخلفيين، و نزلنا…

وليد فتح بابه.. ثم التفت إلى رغد… و التي كانت لا تزال جالسة مكانها لا تصدر منها أي حركة تشير إلى عزمها على النهوض ! ..

” ألن تنزلي ؟ ”

سألها ، فسمعتها ترد بسؤال :

” إلى أين ستذهب أنت ؟ ”

قال وليد :

” إلى المسجد ”

و أشار بيده إلى نفس البناية، و التي تحوي مصلى صغيرا خاصا بالرجال، و آخر بالنساء ، يفصلهما جدار، و يقع باباهما في الطرفين المتضادين ..

يظهر أن الفكرة لم ترق لرغد ( هذه المدللة المدلّعة ) و أبت إلا أن يقف وليد عند مدخل المصلى النسائي، حارسا على الباب !

بعد ذلك، اقترح وليد أن ندخل إلى المطعم المجاور لتناول الطعام، فلم يعجبها الاقتراح، فاقترح أن يذهب هو لإحضاره و نبقى نحن في السيارة، و أيضا لم يعجبها الاقتراح ! يا لهذه الفتاة … لقد بدأت أشعر بالضيق من تصرفاتها ! إنها بالفعل مجرد طفلة كبيرة !

أتدرون ما فعلت في النهاية ؟

أصرّت على الذهاب معه، و تركتنا أنا و أمي نعود للسيارة !

ركبت أنا المقعد الأمامي، و أمي خلفي مباشرة، و قلت مستاءة :

” إنه يدللها بشكل يثير سخطي يا أمي .. أستغرب.. لم َ لم ْ يتركها في بيت خالتها كما أرادت و أصرّت ! إنه ينفذ جميع رغباتها بلا استثناء! فلم عارض هذه الرغبة ؟؟ ”

قالت والدتي :

” هذا لأنه يشعر بالمسؤولية الكاملة تجاهها، لا تنسي يا ابنتي أنها يتيمة و وحيدة ”

قلت :

” هل سمعت ِ ما قاله ؟ يبدو أن ابن خالتها يخطط للزواج منها، بعدما انفصلت عن خطيبها السابق ! أظنه حلا ممتازا لمثل وضعها ! لم يعارضه وليد ؟ ”

قالت :

” هو الأدرى بالمصلحة يا أروى، لا تتدخلي في الموضوع بنيّتي ”

و في الواقع، الموضوع كان يشغل تفكيري طوال الساعات الماضية…

لقد قال وليد و هو في قمّة الثورة و العصبية ، مخاطبا رغد أنه لن يسمح لها بالزواج من أي رجل قبل مرور سنين ! … هذه الجملة تثير في داخلي شكوكا و أفكارا خطيرة …

بعد قليل، أقبل وليد يحمل كيسا حاويا للطعام، و إلى جانبه تسير مدللته الصغيرة ..

من خلال النافذة، ألقت رغد علي نظرة غيظ حادة لم أفهم لها سببا، ثم ركبت السيارة إلى جوار والدتي…

وليد بعدما جلس، أخذ يوزّع علينا حصصنا من الطعام، و الذي كان عبارة عن ( هامبرجر ) و بعض العصير…

و حين جاء دور (المدللة) ، التفت إليها مادا يده، مقدّما علبة البطاطا المقلية …

” تفضلي رغد.. طبقك ”

الفتاة التي تجلس خلف وليد مباشرة قالت ببساطة :

” لا أريد ! كله أنت ! ”

وليد بدا مستغربا ! و قال :

” ألم تطلبي بطاطا مقلية !؟ ”

قالت :

” بلى، غيّرت رأيي، احتفظ به ”

وليد مدّ إليها بعلبة ( الهامبرجر ) الخاصة به…

” خذي هذه إذن ”

قالت :

” لا أريد ! شكرا ”

” و لكن هل ستبقين دون طعام ؟ ماذا تريدين أن أحضر لك ؟؟ ”

” لا شيء ! لا أشتهي شيئا و لا أريد شيئا ! ”

” و هذه البطاطا ؟؟ ”

” كلها ! أو … أطعمها مخطوبتك ! ”

و أسندت رأسها إلى النافذة، معلنة نهاية الحوار !

وليد أعاد علبتي البطاطا و الهامبرجر إلى داخل الكيس، و انطلق بالسيارة …

باختصار، أنا و أمي كنا الشخصين اللذين تناولا وجبتيهما !

عدّة مواقف حصلت أثناء الرحلة الطويلة الشاقة، و رغد إذا خاطبتني ، تخاطبني بطريقة جافة و خشنة، كأنها تصب جم غضبها علي أنا !

بعد مرور ساعات أخرى، و وسط الظلام، استسلمت أنا للنوم..

حينما أفقت بعد مدة لم أحسبها، وجدت السيارة موقفة، و وجدت وليد و رغد يجلسان في الخارج، على الرمال، و أمي نائمة خلفي، و يتحدّثان فيما لا يعلم به إلا الله …

 

~ ~ ~ ~ ~ ~

لأن النعاس غلبني، كما غلب جميع من معي، أوقفت السيارة و في نيتي الخروج و الاسترخاء قليلا ، و تجديد نشاطي…

استدرت للخلف، فرأيت رغد تنظر إلي مباشرة !

” لماذا توقّفت ! ؟ ”

” ألم تنامي ؟ أشعر بالتعب، سأمشي قليلا … ”

و ما إن سرت بضع خطوات، حتى تبعتني صغيرتي …

لم نتحدّث، و أخذت أسير ببطء… على الرمال مبتعدا عن السيارة عدّة أمتار… و أشعر بها تسير خلفي، دون أن ألتفت إليها…

بعد مسافة قصيرة، استدرت قاصدا العودة، فوقعت عيناي على عينيها مباشرة…

أعتقد أن الزمن توقّف عن السير تلك اللحظة… لو تعرفون ما الذي تفعله، نظرة واحدة إلى عيني رغد بي … لربما بررتم التصرفات الغريبة التي تصدر مني !

إنها ترسلني إلى الجنون… فهل يلام مجنون على ما يفعل ؟؟

بعد أن تابع الزمن سيره، تقدّمت نحوها… عائدا إلى حيث السيارة… رغد بقيت واقفة مكانها، إلى أن تجاوزتها ببضع خطوات، ثم أحسست بها تسير خلفي…

مشاعر كثيرة شعرت بها و أنا أغرس حذائي في الرمال..خطوة بعد خطوة…

الشعور بالقلق..لما يخبئه القدر لي، الشعور بالغيظ من رغبة رغد في البقاء مع خالتها.. و ابن خالتها، و بالندم من قسوتي معها.. بالرغبة في الاعتذار.. و بالشوق لأن أواسيها و أعيد إلى نفسها الطمأنينة و الأمان و الثقة بي.. و بالحزن مما قد يكون الآن دائرا في رأسها حولي.. و برغبة جنونية ، في أن أستدير إليها الآن و أهتف في وجهها :

( أنا أحبك ! ) …

ماذا سيحدث حينها ؟؟

و أخيرا.. بشعور ٍ مسيطر…إن تمكّنت من السيطرة على جميع مشاعري و كبتها ، لا يمكنني الصمود في وجه هذا الشعور بالذات !

إنه قارس و قارص !

أنا جائع !

صدر نداء استغاثة من معدتي، سألت الله عشر مرات ألا يكون قد وصل إلى مسامع رغد !

حينما وصلت إلى السيارة، أسرعت الخطى إلى ( نافذتي ) المفتوحة فمددت يدي و استخرجت كيس الطعام، قبل أن تصل رغد …

عدت ُ إلى الرمال، و جلست عليها.. و فتحت الكيس و استخرجت العلب الثلاث المتبقية فيه، علبة البطاطا المقلية، و الهامبرجر، و العصير !

رغد وقفت على مقربة تنظر إلي ! لابد أنها متعجبة مني ! رفعت رأسي إليها و قلت :

” تعالي و شاركيني ! ”

و قمت بتقسيم الشطيرة ( الهامبرجر) إلى نصفين… و مددت ُ يدي بأحدهما إليها..

كانت لا تزال تنظر إلي باستغراب… قلت :

” صحيح باردة ، و لكنها تبقى طيبة المذاق ”

ترددت رغد، ثم جاءت، و جلست إلى جانبي… و تناولت ( نصف الشطيرة ) من يدي…

قرّبت منها علبة البطاطا، و كذلك العصير، فرفضتهما…

بدأت أقضم حصتي من الشطيرة، و أبتلع أصابع البطاطا الباردة، و أشرب العصير، و أتلذذ بوجبتي هذه !

إنه الجوع ، يصيّر الرديء لذيذا !

قلت و أنا أمضغ إصبع بطاطا :

” لذيذ ! جرّبيه ! ”

و أمسكت أحدها و قرّبته منها… كنت أنتظر أن تمد يدها لتمسكه بأصابعها، إلا أنها مدّت رأسها و أمسكته بأسنانها ! و بدأت تمضغه، و يبدو أنه أعجبها لذلك ابتسمت !

أن أراها تبتسم، و إن كانت ابتسامة خفيفة باهتة سطحية، بعد كل الذي حصل، لهو أمر يكفي لأن يجعلني أنسى عمري الماضي…

الماضي… آه … الماضي…

في الماضي، كنت أطعمها أصابع البطاطا بهذه اليد… نفس اليد كانت تمد إليها بإصبع البطاطا قبل ثوان…

نفس اليد، التي تتوق لأن تمسح على رأسها و تطبطب على كتفيها و تضمها إلى صدري…

نفس اليد، التي شدّتها بعنف وقسوة، و أجبرتها على ركوب السيارة رغم مقاومتها…

إنها نفس اليد التي قتلت بها عمّار… و ضربت بها سامر … و لكمت بها حسام… و سأذبح بها أي رجل يحاول الاقتراب منك يا رغد…

و بهذه اليد ذاتها، سأبقى ممسكا و متمسكا بك لآخر نسمة هواء تدخل إلى صدري، أو تخرج منه…

يا رغد… ليتك تعلمين…

” رغد … ”

نظرت إلي، فبقيت صامتا برهة، بينما عيناي تتحدثان بإسهاب… ألا ليتك تفهمين…

” نعم ؟؟! ”

” سامحيني…”

جاء دورها الآن لتنظر إلي نظرة مليئة بالكلام… إلا أنني عجزت ُ عن ترجمته…

قلت :

” سامحيني.. أرجوك ”

لم ترد إيجابا و لا سلبا، لكنها مدّت يدها إلى علبة البطاطا، و تابعت أكلها… على الأقل، هي إشارة حسنة و مطمئنة…

انهينا وجبتنا الباردة ، و في داخلي شعور غريب بالسعادة و الرضا، و الاسترخاء ، و الشبع أيضا !

و عوضا عن تجديد نشاطي، تملّكتني رغبة عارمة في النوم !

( فرشت ) الكيس على الرمال، و تمددت واضعا رأسي فوقه.. و أغمضت عيني..

أنا متأكد من أنني لو بقيت على هذا الوضع دقيقتين اثنتين، لدخلت في سبات عميق و فوري…

الذي حصل هو أن صغيرتي و بمجرد أن أغمضت عيني نادتني بقلق :

” هل ستنام وليد ؟؟ ”

قلت و أنا أتثاءب :

” أنا نعسان بالفعل ! سوف أسترخي لدقائق ”

” وليـــد ! اجلس ! ”

صدر هذا الأمر من صاحبة الدلال و السيادة ، جعلني انهض فورا ، و أصحو تماما !

التفت إليها فوجدتها تنظر إلي بقلق…

” دعنا نعود إلى السيارة و نم هناك ”

” حسنا… إذن هيا بنا ”

و نهضنا و عدنا إلى مقعدينا…

” هل يضايقك أن أزيح مسند مقعدي للوراء يا رغد ؟ ”

” كلا .. خذ راحتك ”

” شكرا ”

صمت برهة ثم عدت أقول :

” أنا متعب بالفعل، قد أنام طويلا ! إذا نهضت ِ و وجدت ِ الشمس توشك على الشروق، فلتوقظيني ”

” حسنا ”

” نوما هنيئا، صغيرتي ”

” لك أيضا ”

~ ~ ~ ~ ~

لم ينته الأمر هنا…

صحيح أن وليد قد نام بسرعة، إلا أن رغد ظلت تتحرك، و أشعر بحركتها لفترة…

كنت أتظاهر بالنوم.. و من حين لآخر أفتح عيني ّ قليلا ، خصوصا إذا أحسست بحركة ما…

هذه المرّة فتحتها فتحة صغيرة، فرأيت يد رغد تمتد إلى مقعد وليد، و رأسها يستند عليه…

هذا لا شيء…!

فالشيء.. الذي أيقظ كل الخلايا الحسية و العصبية و الوجدانية في جسدي، في ساعة كنت فيها في غاية التعب و النعاس، و أرسل أفكاري إلى الجحيم …هو جملتها الهامسة التالية :

” ( نوما هنيئا… يا وليد قلبي …) ”

رواية انت لي

الحلقة الخامسة و الثلاثون

لم أكن أريد أن يدركنا الظلام ، سرت بأقصى سرعة ممكنة ، لكن الشمس سبقتني بالغياب …

حين وصلت إلى المدينة الساحلية ، مسقط رأسي ، كان الظلام قد غطى الأجواء …

تسارعت نبضات قلبي و أنا أسير في الطريق المؤدي إلى بيتنا… كلما وقفت عند إشارة مرور ، توقفت الذكريات عند حدث معيّن …

شوارع المدينة لم تتغير… الكثير من الحفريات و الإصلاحات مبعثرة على الشوارع… لا تزال بعض المباني منهارة كما خلّفتها يد الحرب… و لا تزال المناظر تثير الرهبة في قلوب الناظرين…

” هنا مدينتنا ”

قلت ذلك ، مخاطبا أروى التي كانت تشاهد المناظر من حولها… و كأنه واقع مخيف مرير أخشى تلقيه بمفردي…

” إنها آثار الحرب ! ”

عقّبت أروى ، فقلت :

” و أي آثار … ! تحمل هذه المدينة من ألم الذكرى و بصمات الماضي ما يجعل قلبي يتصدّع من مجرد ذكر اسمها … ”

و أي ذكرى أقسى من … ذلك اليوم المشؤوم… الذي غيّر مجرى حياتي نهائيا …

كأني به يعود للوراء…

كأني بعمار اللعين … ينبعث من قبره…

كأني أراه يبتسم ابتسامته الشرسة القذرة… و يرمي بالحزام في الهواء…

كأني … برغد تصرخ… تركض إلي… تتشبث بي… تخترق صدري ، و خلايا جسدي … تمزّق قلبي … تحرق أعصابي عصبا عصبا … و تفجّر في داخلي رغبة عارمة مزلزلة … منطلقة بعنف و سرعة … ككتلة نارية قذفها بركان ثائر هائج… آبية إلا أن تنتهي بضربة بشعة فتاكة على رأس عمّار… خاتمة بها آخر أعماله القذرة …

لم أتمالك نفسي ، دست بقدمي بقوة … انطلقت السيارة بشكل جنوني… كنت ُ أراه أمامي… و كنت أريد أن أدوسه و أسحقه تحت العجلات … مرة بعد مرة … بعد مرة …

” وليد ! خفف رجاء ً ! ”

هذه المرة كانت أم أروى هي المتحدثة ، أعادتني إلى الواقع ، فوجدت نفسي أقود سيارة في شارع داخلي لا يخلو من النتوءات و الحفر …

خففت السرعة ، و ألقيت نظرة على رغد من خلال المرآة … كانت هي الأخرى مشغولة بمراقبة الطريق …

أتراها تذكر ؟؟

الآن انتقل بصرها إلي … أشارت إلى الخارج عبر النافذة و قالت :

” إنها مدرستي ! ”

نعم إنها هي !

نعم إنها تذكر … حاولت أن استشف من عينيها مدى تأثرها… و إلى أين وصلت بها الذكرى…

حدّقت في مبنى المدرسة… ثم حدّقت بي…

كيف تشعرين يا رغد ؟؟

هل يؤلمك شيء كما يؤلمني ؟؟

هل تطوف في مخيلتك ذكريات ذلك اليوم النحس، كما هي مسيطرة علي الآن …؟؟

لو أملك يا رغد … لمحوت ذلك الماضي من ذاكرتك نهائيا …

لو أملك يا رغد … لاستئصلت ذلك اليوم من عمرك … و اقتلعته من أصل جذوره …

لو أملك يا رغد … لقتلت عمّار قبل أن تلده أمه … و ما تركت له الفرصة ليؤذي أغلى مخلوقة لدي … بأبشع طريقة ….

المسافة تقصر… النهاية تقترب … المباني تمر بنا و تنصرف … واحدا تلو الآخر… إلى أن ظهر أخيرا … مبنى كبير قديم … مهجور و غارق في الظلام … موصد الأبواب و النوافذ … كئيب ميت و مرعب… تحف به أشجار جافة بلا أوراق و لا ثمر … أشجار ماتت واقفة… و بعثرت الريح أوراقها على المجرّة منذ سنين … و ظلّت واقفة … و قامت الحرب… و قعدت الحرب … و ظلت هي واقفة … في انتظار عودة سيدي المنزل … لتنحني أمامهما … محيية مرحبة …

يا أشجار بيتي العزيز …

ستظلين واقفة ما امتد بك الدهر …

لأن السيدين … اللذين تنتظرين عودتهما… لن يعودا أبدا …

عند الباب مباشرة ، أوقفت سيارتي أخيرا…

بقيت قابعا في مكاني لا أجرؤ على الحراك … مركزا بصري على البوابة… كأنني أستأذنها بالدخول … كأنها تستغرب عودتي … كأنها نسيتني !

مرت لحظات ليست كاللحظات، و أنا في سكون شارد …

تحدّثت أروى قائلة بعد أن طال بنا البقاء :

” أليس هذا هو المنزل ؟ ألن ننزل ؟؟ ”

التفت إليها و منها إلى الوراء ، حيث تجلس صغيرتي بتعبيرات وجهها المضطربة و نظراتها المتوجسة …

قلت بصوت يكاد يختنق في حنجرتي :

” منزلنا يا رغد ! ”

رأيت يدها تمتد من موضعها على صدرها إلى عنقها … كأنها تمنع صرخة من الانبثاق قهرا من أعماق حنجرتها الصغيرة …

تحدّثت خالتي أم أروى الآن قائلة :

” هل سننزل هنا ؟ هل تملك مفاتيح للمنزل ؟؟ ”

أجبتها بتحريك المفاتيح المتدلية من مقود السيارة ، و التي تضم مفاتيح المنزل المهجور …

عدت بنظراتي إلى رغد … فهي أهم ما يعنيني في الأمر … لطالما كانت هي الأهم … قلت :

” هيا بنا … توكّلنا على الله ”

بدا على صغيرتي المزيد من التوتر و القلق ، كانا جليين لي …

أخيرا فتحنا الأبواب و هبطنا أرضا …

صغيرتي وقفت و سارت شبه ملتصقة بي ، و كأنها تخشى شيئا …

فتحت البوابة الرئيسية أخيرا … و سمحت لطوفان الذكريات باجتياحنا ….

الحديقة الخارجية … التي لطالما كانت غناء خضراء زاهية … هي الآن مجرد صحراء موحشة تعذّر حتى على الأشواك البرية العيش في رحابها …

لم أكن أشعر بقدمي و هي تسير خطوة بعد خطوة نحو الداخل … اقتربنا من الساحة المرصوفة بقطع الرخام ……

في هذه الساحة … كانت فيها رغد تقود دراجة سامر فيما مضى …

تجاوزنا الباب الخارجي للمنزل ، و سرنا متابعين طريقنا … حتى بلغنا الساحة الخلفية للمنزل … و من خلال بصيص خفيف للضوء ، وقعت أنظارنا على أدوات الشواء المركونة هناك في زاوية الساحة منذ سنين …

ما أن رأتها رغد ، حتى رفعت يدها اليمنى و أمسكت بذراعها الأيسر…كأنها شعرت بلسعة الجمر تحرق ذراعها … مكان الندبة القديمة …

قلت بعطف :

” رغد ! أأنت على ما يرام ؟؟ ”

و بالرغم من الظلام ، استطعت أن ألمح القلق المرسوم على وجهها الصغير …

قلت أخيرا :

” دعونا ندخل إلى الداخل ”

و رأيت يد رغد اليمنى و هي تترك ذراعها الأيسر… و تقترب شيئا فشيئا من يدي ، و تلتحم بها !

أظنها كانت للشعور ببعض الأمان ، فقد كان المكان موحشا ، عدا عن الذكريات الأليمة التي يثيرها …

تركت يدي أسيرة يديها حتى بلغنا الباب الداخلي ، و أردت استخدام يدي في فتح الباب ، إلا أنها لم تطلق سراحها …

بيدي الأخرى فتحت القفل و الباب ، و خطوت الخطوة الأولى نحو الداخل … وظلت يدي اليسرى مسحوبة إلى الوراء ، مربوطة بيد رغد …

كان المنزل غارقا في الظلام … مددت يدي نحو الجدار متحسسا المكابس ، حتى أضأت المصباح … و لحسن الحظ ، بل للعجب ، كان يعمل … !

الإنارة سمحت لنا برؤية ذرات الغبار التي تغطي الأرضية الرخامية عند المدخل…

شددت ُ يدي اليسرى و معها شددت ُ صغيرتي نحو الداخل و أنا أقول :

” ادخلن … ”

رغد خطت خطوة نحو الداخل و أخذت تدور برأسها في المكان … و تشد ضغطها على يدي ، و على صدرها من فرط التأثر…

إن قضيت الوقت في وصف المنزل فإنني لن أنتهي …

لكن … و إن تجاهلت وصفي للمنزل و ذكرياته ، فهل أجسر على تجاهل وصف تعبيرات رغد ؟؟

إنها وقفت على مقربة من الدرج … و هي لا تزال ممسكة بيدي ، و قالت :

” يا إلهي … إنه بيتنا ! لم يتغيّر يا وليد ! أنا أذكره ! ”

ثم قفزت الدموع من عينيها فجأة …

أتذكرين يا رغد ؟؟

أتذكرين هذا المنزل ، الذي تربينا فيه سوية ؟؟

أتذكرين حين كنت أحملك على كتفي و أجول بك أرجاء المنزل ، و أنت تضحكين بفرح ؟؟

كم و كم و كم من الذكريات أحمل في صدري … ذكريات طفلتي الحبيبة المدللة التي تركتها نائمة على سريرها ذات يوم ، و عدت ُ بعد 8 سنين ، و لم أجدها …

ثمان سنين يا رغد … كان يمكن أن أعيشها معك لحظة بلحظة يوما بيوم و سنة بسنة … قضيتها هناك في السجن … برفقة المجرمين المذنبين ، أُضرب و أهان و يُكسر أنفي ، و آكل الطعام الرديء الممزوج بالحشرات ، و أنام على سرير خشبي قاس و وسادة أشبه بالحجر ، بينما أنت في حضن شقيقي … تنعمين بالحب و الرفاهية !

آه يا رغد …

آه ثم آه ثم آه …

قطع سيل الذكريات صوت أروى قائلة :

” أين غرف النوم ؟ أود أن أستلقي فأنا مرهقة جدا ”

طبعا ، جميعنا مصابون بالإرهاق بعد سفر طويل و شاق …

قلت ”

” في الأعلى ”

وهممت بالصعود …

كلما صعدت ٌ خطوة تصاعدت الدماء إلى وجهي ، و تزايدت نبضات قلبي ، و كلما أنرت مصباحا تفجرت ذكريات أخرى في رأسي … حتى إذا ما بلغت الردهة الرئيسية … شعرت ُ بمفاصلي تتساقط أرضا من هول ما أنا فيه …

وجها لوجه ، أمام البابين المتجاورين … لغرفتي أنا و غرفة رغد …

وجها لوجه ، و على بعد خطوات معدودة من بؤرة الذكريات …

لهذا الحد و توقفت كل شيء عن الحركة من حولي … و تجمّد الكون … و تصلّبت الأشياء …

وخز قوي شعرت به أخيرا في راحة يدي ، سببه ضغط أظافر رغد الشديد على يدي …

هنا …التفت إليها … رأيت نهرا من الدموع ينساب من بين رموشها … و على شفتيها كلمة لا تكاد تنطلق …

” غرفتي ! غرفتي يا وليد ! ”

حاولت تحريك يدي ، و تقريب ميدالية المفاتيح من عيني لاختيار المفتاح المناسب ، ألا أن رعشة قوية سرت ببدني .. جعلت الميدالية تنزلق من بين أصابعي و تسقط أرضا ، محدثة رنينا تخلخل عظامي و زلزلها ….

وقفت متسمرا في مكاني عاجزا عن الانثناء و التقاط المفاتيح

رغد تحرّكت و التقطت المفاتيح بنفسها و مدّت يدها إلي …

تحشرج صوتي عن كلمة :

” افتحيه ”

لا أعرف كيف ظهرت حروفها !

نظرت رغد إلي بتردد ، ثم التفتت نحو باب غرفتها ، و تقدّمت خطوة … و بدأت تجرّب المفاتيح …

و أخيرا انفتح القفل … و حركت رغد الباب للأمام قليلا ، بتردد

كانت الغرفة غاطة في السبات العميق المظلم ، منذ تسع سنين !

لم تتحرك رغد ، بل توقفت في مكانها لا تملك من الشجاعة ما يكفي لأن تدخل

أما أنا ، فقد أصاب ركبتي تصلب حاد عجزت معه تحريك أي منهما

” أنا خائفة ! ”

قالت ذلك رغد و هي تلتفت نحوي …

” لا تقلقي ! لا يوجد أشباح ! ”

قلت ذلك ، و أنا أرتجف خوفا من أشباح الماضي …

و لما رأيت في عينيها التردد … أجبرت قدمي على السير للأمام … و وقفت إلى جانبها مباشرة … أمام الباب

دفعت ُ به بهدوء حتى فتحته … و أنا مغمض العينين !

من سأرى في الداخل ؟؟ لابد أنها طفلتي الصغيرة الحبيبة ، نائمة على سريرها … كالملاك !

فتحت عيني … كانت الغرفة تسبح في الظلام … مددت يدي و أضأت المصباح … و أخيرا … رأيت كل شيء …

و آه مما رأيت …

هناك … إلى اليمين ، ترقد سرير رغد القديم ، تماما كما تركته منذ سنين …

لقد كنت أنا من وضع السرير في مكانه ، كما رتّبت أثاث الغرفة بنفسي …

شمعت شهقة ضعيفة انطلقت من صدر رغد … الواقفة إلى جواري

لكنني لم التفت إليها … لقد كنت مأخوذا بسحر الذكرى الماضية …

تقدّمت نحو سرير رغد … أجر قدمي ّ جرا … حتى إذا ما بلغته انثنيت عليه و أخذت أتحسسه …

طافت بي الذكرى … و تخيلت رؤية رغد نائمة هناك … و هيء لي أنني لمست شعرها الناعم … و أحسست بأنفاسها القصيرة … شعرت بجسمها الضئيل يتحرك !

” رغد صغيرتي ! ”

انطلق الاسم من لساني عفويا … كما انطلقت عبرة حارقة من مقلتي …

يا للأيام !

بعد كل هذه السنين … أعود إليك !

داهمتني رغبة جنونية في أن أحتضن السرير برمته … في أن أطوّقه بذراعي … في أن أقبّل دعائمه …

” هل كانت هذه غرفتك يا رغد ؟ ”

كان هذا صوت أروى ، أيقظني من سبات الذكريات ، فهو صوت لم أعتد على سماعه في هذا البيت !

” نعم ”

أجابت رغد و هي تتقدم نحوي …

التفت إليها فإذا بي أراها تحدّق في شيء ما و هي تقول :

” وليد ! ”

التفت إلى ذلك الشيء ، فإذا به ورقة صغيرة … ملصقة بالجدار بشريط لاصق ، مرسوم عليها صورة لشخص ما ، و قد امتد خط طويل تحت أنفه !

إنها الصورة التي رسمتها لي رغد عندما كنا هنا ، قبل زمن !

و هذا الخط الطويل … هو ( الشارب ) الذي تخيلته ينبت لي ، عندما أكبر !

مددت ُ يدي و انتزعت الورقة و نظرت إليها مليا …

رباه ! ألا تزال هذه الصورة حيّة حتى الآن !

نظرت إلى رغد … أعساها تذكرها ؟؟

سمعتها تقول :

” تشبهك ! أليس كذلك ؟ ”

و تبتسم !

رفعت يدي إلى شاربي أتحسسه ، ثم قلت :

” إلى حد ما ! ”

ثم نظرت إليها …

و تعرفون ما حصل ؟؟

انفجرنا ضاحكين …

ذلك الضحك الذي أعاد الحياة فجأة إلى بيت ميّت منذ سنين ….

بدت الأجواء الآن أكثر حيوية ، و جالت رغد في غرفتها بمرح تتحسس الأشياء من حولها و تنفض يديها من الغبار !

” لا شيء تغيّر وليد ! ”

” لا شيء ! ”

سوى أن تسع سنوات قد أضيفت إلى عمرك ِ و منعتني من أن أحملك ِ على ذراعي و أدور بك في الغرفة كما كنت أفعل سابقا !

” دعنا نرى غرفتك ! ”

قالت ذلك رغد فالتفت ّ إلى الباب ، و حينها فقط تذكرت أن أروى و أمها كانتا موجودتين معنا !

بعد ذلك ، فتحت ُ باب غرفتي الملاصقة لغرفة رغد و ما إن أضأت المصباح حتى وقعت عيني مباشرة على ذلك الشيء المجعّد الملقى هناك عند تلك الزاوية !

التفت إلى رغد … أتراها رأته ؟ أتراها تذكّرته ؟؟ أتراها تذكر الأمنيات التي … حبستها فيه قبل 11 عام أو يزيد ؟؟

لكن رغد لم يبد ُ عليها أنها انتبهت لوجوده ، و هو محشور عند تلك الزاوية …

تسللت رغد إلى الداخل و جالت ببصرها في أنحاء الغرفة جولة سريعة ثم وضعت يديها على وجهها و تنهّدت …

” يا إلهي !! ”

و عندما رفعت يديها ، كانت الدموع قد بللتهما

مسحت دموعها و أعادت تأمل الغرفة ، ثم قالت :

” لقد منعتني أمي من دخولها بعد رحيلك ! لا أصدق أنني دخلتها مجددا ! ”

ثم التفتت فجأة ناحية الباب و قالت :

” لقد تركت ُ رسالة هاهنا ! ”

قلت :

” نعم . لقد رأيتها ! لم أكن لأصل إليكم لولاها يا رغد ! شكرا لك ! ”

و كانت رغد قد كتبت رسالة وضعتها أسفل الباب ، تذكر فيها انتقالهم إلى المدينة الصناعية ، و اكتشفت أنا وجودها ليلة عودتي إلى المنزل ، بعد خروجي من السجن ، العام الماضي !

رغد عادت تتأمل الغرفة إلا أنها لم تلمح ذلك الصندوق …

و يبدو أنه لم يكن ليخطر لها على بال …

بل و ربما لم تعد تذكره …

و هذا ، جعلني أتألم كثيرا … و كنت سأنبهها إليه لولا أن الخالة ليندا قالت لحظتها :

” أضنانا التعب يا بني ، أرنا أين يمكننا المبيت ؟ ”

قالت رغد مباشرة :

” أنا سأنام في غرفتي ! ”

و رُتّب الأمر بحيث أنام أنا في غرفتي ، و ورغد في غرفتها ، و أروى و الخالة في الصالة …

كان التعب قد نال منا ما نال ، للدرجة التي ، و رغم كل ما أثارته الذكريات من الآلام ، نمت ُ فيها بسرعة …

أظن أنني كنت أحلم بشيء ما … و أظنه كان شيئا جميلا … و أظن أن رغد كانت هي مضمون حلمي …

فجأة سمعت نقرا على الباب … استويت جالسا و أخذت أحدق في الظلام من حولي … تذكّرت أنني أنام على سريري في منزلي القديم … لم أصّدق أنها الحقيقة … النقر كان يصل أذني … أستطيع أن أسمعه جيدا … إنه ليس بالحلم … و حين أنهض … و أفتح الباب … سوف لن أجد خيال رغد الطفلة الصغيرة … و أسمعها تقول …

” وليد أنا خائفة ! دعني أنام معك ! ”

تقدّمت نحو الباب و دقات قلبي تتسارع …

أحقا ستظهر رغد ؟

أ أنت ِ خلف الباب يا رغد ؟

أعدت ِ للظهور كما في السابق ؟

هل رجع الزمن للوراء … فقط تسع سنين ؟ …

أمسكت بمقبض الباب … و أدرتها …

و أنا أنظر إلى الأسفل … إلى حيث أتوقع أن أجد عيني صغيرتي الخائفة …

يا رب … حقق حلمي و لو لحظة واحدة …

و لو لمرة أخيرة … أرى فيها صغيرتي الحبيبة و آخذها إلي …

فتحت الباب … فوقعت عيناي على اليد التي كانت تطرق الباب …

رفعتها للأعلى قليلا … فإذا بي أرى وجها كالذي تمنيت رؤيته …

أغمضت عيني برهة و عدت أحدق بعينيها

أأنا أحلم ؟ أم هذه حقيقة ؟؟

” رغد !!! ”

همست بصوت لم أكد أن أسمعه …

ارتفعت يد رغد قرب عنقها ، و تنهّد صدرها ثم سمعتها تقول :

” وليد … أنا خائفة … ابقني قربك ! ”

عرض التعليقات (9)