روايه انت لي الحلقه 18

10 9٬340
 

روايه انت لي الحلقه 18 الجزء 1

روايه انت لي الحلقه 18 الجزء 1

روايه انت لي الحلقه 18 الجزء 1

روايه انت لي الحلقه 18 الجزء 1, معكم صديقة زاكي الشيف الموهوبة ,leen
الحلقة الثامنة عشرالجزء 1

أفقت من غفوتي القصيرة …

كنت أجلس على أريكة بمحاذاة الشاطئ ، تتدلى قدماي في مياه البحر و تعانقان أمواجه الراقصة …

الهواء كان منعشا جدا و البحر غاية في الجمال … منظر لم تره عيناي منذ سنين

إنها المرة الأولى منذ تسع سنين ، التي يبتهج فيها صدري و أنا بين أهلي و أحبابي …

أصوات مجموعة من الأطفال تغلغلت في أعماق أذني و أيقظتني من راحتي النادرة

ما إن فتحت عينيّ الناعستين حتى تلقتا منظرا جعلني أقف منتصبا فورا !

كانت رغد … صغيرتي الحبيبة … خطيبة أخي الوحيد … تجلس على الرمال المبللة تعبث بالماء … إلى جواري تماما !

نهضت و قد أصابني الروع !

و سرعان ما هبت هي الأخرى واقفة ، تنظر إلي …

وجّهتُ سهام بصري إلى البحر … ليبتلع أي شعور يفكر في الاستيقاظ في داخل قلبي … و خطوت مبتعدا عنها

استوقفتني ، فأخبرتها بأنني ماض للسباحة فقالت بسرعة :

” انتظر ! سأعود لأمي … ”

لم أعرف ما إذا كانت تقصد مني مرافقتها أو مراقبتها تحديدا ، إلا أنها حين سارت مبتعدة بقينا أنا و سامر ـ و الذي خرج من الماء للتو و وقف إلى يساري لا يفصلني عنه غير شبرين ـ نراقبها و هي تبتعد …

و حين ظهر فتى في طريقها يريد أخذ كرة القدم التي تدحرجت منه نحوها ، اضطربت صغيرتي … و استدارت نحونا … و أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي اليمنى و اختبأت خلفها !

أنا طبعا وقفت كالجدار لا أحس بشيء مما حولي و لا أعرف ماذا يحدث و ماذا علي أن أفعل !

أردت أن أسحب ذراعي لكنها غرست أظافرها بي و آلمتني …

الفتى ذاك كان يحمل الكرة و ينظر بتعجب نحونا

و أمي و دانه أيضا تنظران بتعجب

أما النظرات التي لم أعرف ما طبيعتها هي نظرات أخي سامر …

” صغيرتي … صغيرتي … لا بأس عليك … اهدئي أرجوك ”

رغد الآن تنظر إلى و قد اغرورقت عيناها بالدموع ، و قالت بانفعال و اضطراب :

” لماذا لم تأتِ معي ؟ لماذا تركتني وحدي ؟ هل تريد أن يؤذيني أحد بعد ؟ ”

كلمتها هذه جعلت عضلاتي تنقبض جميعها فجأة ، و لا شعوريا مسكت أنا بيديها و شددت عليهما بقوة …

لحظة جحيم الذكرى … و أعيينا تحدق ببعضها البعض بحدة … من عيني يقدح الشرر الحارق … و من عينها تنسكب الدموع المجروحة … و في بؤبؤيها أرى عرضا للشريط المشؤوم اللعين … و صورة لعمّار يبتسم … و الحزام يتراقص …

” لكنت ُ قتلته ”

نطقت بهذه الجملة لا إراديا و أنا أحدق بها في نظرات ملؤها الشر … و القهر …

لقد شعرت بأشياء تتمزق بداخلي … و أشياء تعتصر … و أشياء تتوجع و تصرخ …

كيف لي أن أتحمل موقفا كهذا ؟؟

لو ظل سامر صامتا ، ربما بقيت شهورا واقفا عند نفس النقطة ، إلا أن صوته قطع الحبال المشدودة و أرخى العضلات المنقبضة

” رغد … ”

أطلقنا نظراتنا المقيدة ببعضها البعض و سمحنا لها بالانتقال إلى عيني سامر …

لا يخفى عليكم الذهول و الحيرة و الدهشة التي كانت تغلف وجه سامر الواقف ينظر إلينا …

قال :

” رغد … عزيزتي … ”

و لم ينطق بعدها بجملة واضحة تفسر التعبيرات الغامضة المرسومة على وجهه الحائر …

رغد الآن بدأت تمسح دموعها و قد هدأت نوعا ما …

الآن … تصل أمي و أختي … و تستدير رغد إليهما ، و تنطق بمرارة :

” قلت لك لا أستطيع … لا أريد المجيء … لا أستطيع … لا تتركوني وحدي ”

و انخرطت في مزيد من البكاء المؤلم

أمي أحاطتها بذراعيها و أخذت تتمتم بكلمات لم استطع استيعابها من هول ما أنا فيه …

ثم رأيتهن هن الثلاث ، رغد و أمي و دانة ، يبتعدن عائدات من حيث أتين …

سامر ظل واقفا لثوان أخرى ، ثم هم باللحاق بهن … و حانت منه التفاتة إلي … فرآني و أنا أنهار على الرمال و أضغط بيدي على معدتي و أتأوه ألما …

لقد شعرت بأشياء تتمزق و تعصر في أحشائي … و دوار داهمني دون إنذار مسبق … و خور و وهن مفاجئ في بدني … فهويت أرضا …

كنت أعرف أن قلبي ينزف من الداخل ، كما تنزف أنسجة جسدي كله من شدة الموقف و قسوته … و شعرت بالدماء تجري بكل الاتجاهات في جسمي … و أحسست بها تصعد من جوفي … و تملأ فمي … ثم تخرج و تنسكب على الرمال ملونة إياها هي و يدي المرتكزة عليها باللون الأحمر …

الآن … تستطيع عيناي رؤيتها بوضوح … تماما كما ترى النور …

دماء حقيقية خرجت من جوفي ممزوجة بعصارة معدتي المتلوية ألما …

” وليد ! ”

رفعت رأسي ، فإذا بي أرى سامر ينظر إلى موضع الدماء بذعر …

” ما هذا ؟؟ ”

ما هذا ؟ أظن أنها دماء ! و هي المرة الأولى التي تخرج فيها دمائي من جوفي … و أنا أشعر بألم حاد جدا في معدتي …

ما هذا ؟

أظن أن هذا عرضٌ لمرض ٍ ما …

 

بعد فترة … كنا نجلس قرب موقد الجمر ، نستنشق الأدخنة المتصاعدة من المشويات … و نتلذذ برائحتها الشهية …

كان والدي يقلب الأسياخ و يهف الجمر … و كلما نضج اللحم في أحد الأسياخ دفعه إلى واحد منا ، فيلتهمه بشهية كبيرة …

و الآن جاء دوري …

” تفضل يا وليد ”

كنت أود مشاركتهم هذه الوجبة اللذيذة التي لم أذق لها مثيلا منذ سنين … لكن الآلام الحادة في معدتي حالت دون إقبالي على الطعام …

” شكرا أبتاه … لا أستطيع التهامها فمعدتي مضطربة جدا ”

قال سامر :

” لقد تقيأ دما قبل قليل ”

الجميع ينظر إلى الآن بقلق …

ابتسمت و قلت :

” ربما أكلت شيئا لم تتقبله ! لا تكترثوا ”

أمي قالت بقلق :

” بني … عساه خيرا ؟؟ ”

” لا تقلقي أماه … ستهدأ بالصيام لبعض الوقت ”

ثم حاولت تغيير مجرى الحديث …

أبي مد سيخ اللحم المشوي نحو الشخص التالي قائلا :

” نصيبك يا رغد ”

رغد كانت تجلس على مؤخرة البساط ، بعيدة عن موقد الجمر الذي نجتمع قربه …

رغد نهضت ، و أقبلت نحونا و مدت يدها و أخذت السيخ ، ثم همت بالعودة إلى المؤخرة …

نهضت أنا و قلت :

” تفضلي هنا … أنا سأتمشى قليلا ”

و ابتعدت كي أدع لها المجال لتجلس مكاني ، قرب الجميع … و تستمتع معهم بوجبة الشواء الشهية …

ذهبت أولا نحو سيارة أخي ، و استخرجت علبة السجائر التي كنت أضعها في جيب بنطالي الذي استبدلته بملابس السباحة … ثم انطلقت إلى البحر … و جلست على الرمال … أدخن بشرود

صوت أبي الجهور كان يصلني خافتا ضاحكا … إذن فالجميع يستمتعون بوقتهم … كم أتمنى لو أعود للحياة الدائمة معهم … ليتني أستطيع ذلك …

ليتني أستطيع رمي الماضي في قلب البحر … و نسيانه …

بعد قرابة النصف ساعة جاءتني دانة

ابتسمت عند رؤيتي لها ، فابتسمت هي الأخرى إلا أنها سرعان ما حملقت بي بتعجب …

” أنت تدخّن ؟؟ ”

مرّغت السيجارة التي كانت في يدي في الرمل المبلل ، إلى جوار أختها السابقة … و ابتسمت ابتسامة واهنة تنم عن الاستسلام و القنوط …

” عادة سيئة … لا خلاص منها ! ”

دانه جلست إلى جانبي و أخذت تراقب الأمواج المتلاطمة … ثم قالت :

” لم أكن أعلم بذلك ! لو كان نوّار يدخن لرفضت الارتباط به ! لا أطيق رائحة هذه المحروقة السامة ! ”

قلت ببعض الخجل :

” معذرة ”

ثم أضافت مداعبة :

” و على فكرة … فإن جميع الفتيات مثلي أيضا ! و إن استمررتم في التدخين فسوف تسببون أزمة عزّاب و عوانس ! ”

أطلقتُ ضحكة عفوية على تعليقها خرجت من أعماق صدري ممزوجة ببقايا الدخان!

قلتُ بعد ذلك :

” إذن … هل استعديتما للزفاف ؟؟ ”

بشيء من الخجل قالت :

” تقريبا … إنه يريد أن نتزوج بعد عودة والديّ من الحج مباشرة ! أبي يود تأجيل ذلك شهرين أو ثلاثة … أما والدتي فتراه موعدا مناسبا جدا ، و تريد أن يتزوج سامر و رغد معنا دفعة واحدة ! ”

و هذا خبر ليس فقط يحبس الأنفاس في صدري و يعصر معدتي ، بل و يستل روحي من جسدي … و لن أعجب إن رأيتها تنسكب على الرمال أمامي كما انسكبت دمائي قبل قليل !

في هذه اللحظة أقبل سامر و رغد … لينضموا إلينا

قال سامر :

” هل لنا بالانضمام إليكما ؟ تركنا الوالدين يشويان السمك ! ”

قالت دانة ضاحكة :

” أوه أمي ! من سيلتهم المزيد ؟ أخبرتها ألا تحضر السمك و لكنها مولعة به كثيرا ! ”

و استدارت نحوي :

” وليد كيف معدتك الآن ؟ ألا تحب أن تتناول بعض السمك المشوي ؟؟ ”

” كلا ، لا طاقة لي بالطعام هذه الليلة ”

و جلس سامر إلى جانبي الآخر ، و رغد إلى جانب دانة …

قال :

” فيم كنتما تتحدثان ؟؟ ”

قالت دانة :

” فيكما أنت و رغد ! كنت أخبر وليد أنكما حتى الآن لم تتخذا قرارا نهائياحاسما بشأن موعد الزفاف ! ”

سامر ابتسم و قال :

” أنا جاهر و في انتظار أوامر العروس ! ”

العروس هي رغد ! و رغد هي صغيرتي الحبيبة … التي كنت أحلم بالزواج منها ذات يوم … ثم فقدتها للأبد … فهل لكم أن تتخيلوا حالي هذه اللحظة ؟؟

قالت دانة :

” هيا يا رغد ! قولي نعم و دعينا نحتفل سوية ! ”

ثم غيرت النبرة و قالت مداعبة :

” و لكن كوني واثقة من أنني سأكون الأجمل بالتأكيد ! ”

أذناي طارتا نحوها ، حتى كادتا تلتصقان بشفتيها أو حتى تخترقان أفكارها لأعلم ما ستقوله قبل أن تقوله … تكلمي رغد ؟؟

رغد ظلت صامتة … و أنا أذناي تترقبان بصبر نافذ … هيا يا رغد قولي أي شيء … ارمني بسهام الموت واحدا بعد الآخر …

اطعنيني بخناجر الغدر و حطمي قفصي الصدري و مزقي الخافق الذي ما فتئ يحبك مذ ضمك إليه طفلة يتيمة وحيدة … توهم أنها خلقت من أجله فجاءت قذائفك تدمر قلعة الوهم التي بنيتها و عشت بداخلها 15 عاما … أو يزيد …

و أقسم … أقسم أنك لو تزوجت مع شقيقتي في نفس الليلة ، فإني سأتخلى عنها و أخذلها و أدفن نفسي بعمق آلاف الأميال تحت الأرض ، لئلا أحضر أو أشارك أو أبارك ليلة تزفين فيها إلى غيري … مهما كان …

بعد كل هذه المشاعر التي تصارعت في داخلي في ارتقاب كلمتها التالية … و أذاني تصغيان باهتمام و تركيز شديدين أكاد معهما أسمع دبيب النمل …

بعد كل هذا … جاءني السهم المباغت التالي :

” وليد … ما رأيك ؟؟ ”

أنى لي أن أصف ما أود وصفه و أنا بحال كهذه ؟؟

تسألينني أنا عن رأيي ؟؟ رأيي في ماذا ؟؟

في أن تتزوجي شقيقي اليوم أو غدا أو بعد قرن ؟؟

في أن تذبحيني اليوم أو غدا … أو بعد قرن ؟؟

أتشهد أيها البحر ؟؟

ألا يا ليتك تبتلعني هذه اللحظة … فأمواجك العاتية ستكون أكثر لطفا و رحمة بحال رجل تسأله حبيبة قلبه : ما رأيك بموعد زفافي !

تحركت يداي إلى علبة السجائر الموضوعة على الأريكة الجالسة خلفي ، و تناولت واحدة و أشعلتها في محاولة مستميتة للفرار من جملة رغد ، التي كنت قبل ثواني أتوق لسماعها و أرسل أذنيّ نحو لسانها لالتقاط الجملة بسرعة فور خروجها …

بدت اللحظة التالية كالساعة بل كالقرن في طولها ..

سحبت نفسا عابقا بالدخان المنبعث من السيجارة المضغوطة بين شفتي …

و أطلقت زفرة قوية … حسبت معها أن روحي قد انطلقت ، و الدخان قد لوث الكرة الأرضية بكاملها …

قلت … بعدما عثر لساني على بضع كلمات مرمية على جانبية :

” الأمر عائد إليكما ”

و وقفت …

و قلت :

” معذرة … سأدخن في مكان آخر ”

و انصرفت عنهم …

سرت ُ مبتعدا ، و وقفت موليا إياهم ظهري … انفث السموم من و إلى صدري و أقاوم آلام قلبي و معدتي … و أحترق .

بعد فترة ، انتهت رحلتنا و آن أوان العودة إلى البيت …

لم أكن أريد أن أركب سيارة سامر … فقربه و قربها مني يعني مزيدا من الألم و الاحتراق ، لكنني حين رأيت دانة تركب سيارة والدي ، و رغد تقف عند سيارة سامر … توجهت تلقائيا و جلست على المقعد الأمامي ، لأمنعها من الجلوس عليه !

مشوار العودة كان طويلا مملا … فقد التزمنا الصمت … و رغد نامت !

” وصلنا عزيزتي ! ”

قال سامر ذلك و هو يلتفت إلى الوراء ، ليوقظ رغد …

كنا قد وصلنا قبل الآخرين …

فتحت أنا الباب و هبطت من السيارة ، و رأيت رغد تستفيق …

ذهبت إلى مؤخرة السيارة أفرغ حقيبتها من حاجيات الرحلة ، ثم أحملها إلى داخل المنزل …

و أقبل سامر يساعدني ، و حين وصلت إلى الباب ، جاءت رغد بمفتاح سامر و فتحته لي … و انطلقت مسرعة نحو الباب الداخلي تفتحه على مصراعيه لأدخل بما تحمل يداي ، و أتجه نحو المطبخ …

وضعت الأشياء في المطبخ و استدرت راغبا في العودة لجلب البقية … رغد واقفة عند باب المطبخ تراقبني …

حين مررت منها …

” وليد ”

وقفت … و عاودني الشعور بالألم في معدتي فجأة … يكفي أن أسمعها تنطق باسمي حتى تتهيج كل أوجاعي …

لم أرد ، و لكنني توقفت عن السير منتظرا سماع ما تود قوله …

” وليد ”

عادت تناديني … تعصرني …

” نعم ؟؟ ”

قالت :

” ألم يعد يهمك أمري ؟؟ ”

فوجئت بسؤالها هذا فالفت إليها مندهشا …

كانت عيناها حمراوين ربما من أثر النوم … و لكن القلق باد عليهما …

” لم تقولين ذلك !؟ ”

قالت :

” لم لم تبد ِ رأيك بشأن زواجي ؟؟ ”

تصاعدت الدماء المحترقة إلى شرايين وجهي و ربما إلى حلقي لكنني ابتلعتها عنوة

قلت :

” إنه أمر يخصكما وحدكما … و لا شأن لي به ”

رغد هزت رأسها اعتراضا ثم قالت :

” لكن وليد … أنا … ”

و لم تتم الجملة ، إذ أن أخي سامر أقبل يحمل بعض الأغراض ، فسرت أنا خارجا لجلب المتبقي منها …

فيما بعد ، و سامر يحمل بطانية و وسادة قاصدا الذهاب للنوم في غرفة الضيوف و تركي أنام في غرفته ، كما أصر … و قبل أن يخرج من الغرفة توقف و قال :

” وليد … هل لي بسؤال ؟ ”

” تفضل ؟؟ ”

تأملني لحظة ثم قال :

“وليد … لماذا … قتلت عمّار ؟؟ ”

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

 

 

ذهبت مباشرة إلى غرفتي ، قبل أن تحضر أمي و دانه ثم تطلبان مني مساعدتهما في الغسل و التنظيف …

فأعمال المنزل هي آخر آخر شيء أفكر بالقيام به في هذه الساعة ، و هذه الحال

يكاد قلبي ينفطر أسى … لحقيقة مرة أتجرعها رغما عني

وليد لم يعد يهتم لأمري … و لم أعد أعني له ما كنت و أنا طفلة صغيرة …

ربما ظن الجميع أنني أويت لفراشي و نمت … فعادتي أن أنام مبكرة ، إلا أنني قضيت ساعات طويلة في التفكير و الحزن … و الألم و الدموع أيضا

لماذا يعاملني وليد بكل هذا الجفاء و يبتعد كلما اقتربت ؟؟

و دليل آخر … تكرر صباح اليوم التالي …

فقد نهضت متأخرة … و وجدت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون حول أمور شتى …

دخلت الغرفة فتوقف الجميع عن الحديث ، و ألقيت تحية الصباح … ثم خطوت باتجاه أحد المقاعد راغبة في مشاركتهم أحاديثهم …

و الذي حدث هو أن وليد نهض ، و هم بالمغادرة …

شعرت ُ بألم حاد في صدري …

قلت :

” كلا … ابق حيث أنت … أنا عائدة إلى غرفتي … اعتذر على إزعاجكم ”

و استدرت بسرعة مماثلة للسرعة التي بها انهمرت دموعي …

و غادرت المكان …

ذهبت إلى غرفتي و سبحت في بحر دموعي …

وافتني أمي بعد قليل و رأتني على هذه الحال

” رغد يا عزيزتي … لا تأخذي الأمر بهذه الحساسية ! إنه لا يقصد شيئا … لكنه الحياء ! ”

انفجرت و تفوهت بجمل لم أفكر فيها إلا بعد خروجها ، من شدة تأثري …

قلت :

” إذا كان وجودي في هذا البيت يزعجه فأنا سأرحل إلى بيت خالتي … ليأخذ حريته التامة في التجول حيثما يريد ”

أمي صدمت بما قلت ، و حملقت بي باندهاش …

” رغد ! كيف تقولين ذلك ؟؟ ”

” إنه يتعمد تجاهلي و تحاشي ّ … كأنني فتاة غريبة و موبوءة … أ لهذا الحد لم يعد يطيقني ؟ ألم أعد أعني له شيئا ؟؟ ألم يكن يعني لي كل شيء في الماضي ؟؟ ”

و سكت ّ ُ ، التقط بعض الأنفاس و أمسح الدموع بكومة من المناديل متكدسة في يدي … كنت أبكي بانفعال …

والدتي قالت فجأة :

” و الآن ؟؟ ”

نقلت بصري من كومة المناديل المبللة في يدي ، إلى عيني أمي و نظراتها المقلقة …

و الآن ؟؟

أعتقد أن أمي كانت تلمح إلى شيء ، لم تجرؤ على التصريح به … و إن قرأت بعض معالمه في عينيها …

إنها نفس النظرة التي رمقتني بها تلك الليلة ، ليلة رحيل وليد السابق ، قبل أذان الفجر …

و خفت … من الحقيقة التي لا أريد أن أكتشفها أو يكتشفها أي كان … حقيقة الشعور بالحرارة التي تتأجج داخلي كلما كان وليد على مقربة ..

 

في ذات اليوم ، أصررت على الذهاب إلى بيت خالتي و تناول الغذاء مع عائلتها

كنت أريد أن أبتعد مسافة تسمح لي بالهدوء ، فنبضاتي لا يمكن أن تهدأ و وليد في مكان قريب …

هناك فوجئت بأمر آخر !

خالتي انفردت بي لبعض الوقت في إحدى الغرف و بدون أية مقدمات سألتني :

” هل صحيح أنك … أنك لا ترغبين في الزواج من ابن عمك سامر ؟؟ ”

دهشت و هالني ما سمعت … قلت بذهول :

” أنا ؟ من … قال ذلك ؟؟ ”

خالتي كانت تحدثني بجدية و قلق واضحين …

قالت :

” لقد سمعَتْك سارة تخبرين نهلة بهذا ذات مرة … و ذكرت الأمر على مسمع مني و من حسام … و من حينها و هو و أنا معه في جنون ! ”

لم أع ِ الأمر بالسرعة المفروضة ، بل بقيت أحملق بدهشة و بلاهة في عيني خالتي … و ربما هي فسرت صمتي موافقة على ما تقول …

” رغد … أخبريني بكل شيء … فإن لم تكوني ترغبين في الزواج من ذلك المشوه فثقي بأنني لن أسمح لهذا الزواج بأن يتم أبدا ”

 

 

 

فيما بعد ، كنت أجلس مع نهلة في غرفتها دون وجود سارة ـ لوحدنا أخيرا !

قلت :

” و تقولين أنها لا تعي شيئا ؟ إنها أخطر مما ظننت ! يا لجرأتها … كيف تخبر خالتي و حسام بأمر كهذا !؟ هل أنا قلت ذلك ؟؟ ”

نهلة تنهدت و قالت :

” هذا ما ترجمه دماغها الصغير ! لقد قلت أنك لا تريدين الزواج الآن ! أخضعتني أمي لاستجواب مكثف ، و أخي حقق معي مطولا بسبب هذا الأمر ! ”

” يا إلهي ! ”

ابتسمت نهلة ابتسامة سخرية ماكرة ، ثم وقفت فجأة و نفخت صدرها هواء ً ، و رفعت كتفيها عاليا ، و قطبت حاجبيها و عبست بشكل غريب مرعب و قالت بنبرة خشنة ـ تقلد حسام :

” أمي يجب أن تتأكدي من الأمر لأنني إن اكتشفت أنهم أرغموها على هذا الزواج أو استقلوا كونها يتيمة و صغيرة و ضعيفة ، فأقسم بأنني سأشوه النصف الآخر من وجه ذلك اللئيم الماكر ”

قفزت أنا واقفة بغضب …

” نهلة ! ”

ألا أنها تابعت تمثيل المشهد :

” قلت لك يا أمي … تدخلي و امنعي هذا الارتباط منذ البداية … أترين أن فتاة في الرابعة عشر هي مدركة بالقدر الكافي لتحديد مصيرها في أمر كهذا ؟؟ كيف تجرءوا على فعل هذا كيف ؟؟ كيف ؟؟ ويل لذاك المشوه مني ”

” يكفي نهلة … ”

قلت ُ بعصبية ، فعادت نهلة إلى شخصيتها الطبيعية ، و قالت :

” هذا ما كان يحصل كل يوم ! تعرفين أن حسام يبغض خطيبك من ذلك الحين ! ”

قلت :

” لا أقبل أن ينعته أحد بالمشوه … و تشوه وجهه ليس شيئا يستحق أن يعير عليه”

نهلة جلست على السرير ، و قالت :

” ليس بسبب التشوه هو ناقم منه ! تعرفين ! إنه بسببك أنت ! لازال مولعا بك ! ”

انزعجت من هذا … فقد كنت أظن أن الأمر قد انتهى … لكن …

” أرجوك نهلة لنغير الموضوع … لقد أكدتُ لوالدتك أن سارة فهمت خطأ … و إن بدا عليها عدم الاقتناع … لكن لندع الأمر ينتهي الآن … ”

و أتيت و جلست قربها … ثم اضطجعتُ مسترخية على السرير …

” إذن … ماذا قررت ؟ مع دانة أم بعدها ؟؟ ”

تنهدت بانزعاج من الموضوع برمته … قلت :

” لم أقرر يا نهلة … لماذا يطاردني الجميع بهذا السؤال ؟؟ ”

نهلة أمسكت بيدي اليمنى و أخذت تحرك خاتم الخطوبة حول إصبعي البنصر و تقول :

” لأن هذا الخاتم سئم البقاء حول هذا الإصبع ! إنها أربع سنوات يا رغد ! ”

قلت :

” لكنني لا أزال صغيرة ! ألا ترين ذلك ؟؟ أريد أن أتخرج من الجامعة أولا.. و أريد أن … تتغير علاقتي بسامر فأنا لا أشعر بشيء مميز تجاهه ”

كنت أنظر إلى السقف ، و لكن رأس ابنة خالتي ظهر أمامي فجأة … و أجبرني على النظر إلى عينيها …

قالت :

” تقصدين لا تحبينه … ”

و كان تقريرا إجباريا لا سؤالا …

التفت يمينا فأمسكت هي بوجهي و أعادته حيث كان و أجبرتني على النظر إلى عينيها الناطقتين بالحق …

” لا تهربي رغد ! أنت ِ لا تحبينه ! ”

استسلمت … و غضضت بصري … أتحاشى تلك النظرة الثاقبة الفاهمة …

نهلة هي أكثر شخص يفهمني و أبوح إليه بأسراري و كل ما يختلج مشاعري …

نهلة مسحت على رأسي بعطف و قالت :

” رغد … لا تتزوجيه إذا لم تكوني ترغبين في ذلك … إنه كالأخ بالنسبة إليك ! أبقيه أخا فأنت بحاجة إليه كأخ لا كزوج ! ”

” نهلة ! … ”

و ضربت أنفي بإصبعها ضربة خفيفة و هي تقول :

” أليس كذلك ؟؟ ”

عدت أحدق بها … في حيرة من أمري …

قلت :

” من أتزوج إذن ؟؟ ”

هي ابتسمت و قالت بمكر :

” أخي حسام ! ”

رفعت رأسي و صدمت جبينها بجبيني عمدا ثم جلست و أخذت هي تمثل دور المتألمة !

” آه … رأسي ! كسر في الجمجمة ! انجدوني ! ”

قلت بنفاذ صبر :

” قلت لك ِ ! لا تتوبين !”

قالت و قد بدت عليها الجدية الآن :

” صدقيني يا رغد … إنه مهووس بك ! ”

قلت :

” و الآخر كذلك ! لم تظنينه يلح علي بالزواج ؟ إما أن نتزوج أو يفتش عن وظيفة أخرى تبقيه قربي ! ”

قالت ، تنظر إلي بعين شبه مغمضة و حاجبيها مرفوعين أقصاهما :

” من مثلك ! عاشقان في وقت واحد ! يا للحظ ! كم أنا مسكينة ! ”

” قلت لك لا تتوبين ! أوه نهلة ! لسوف أطلب من خالتي التفتيش عن عريس لك حتى أتخلص منك كما تخلصت من دانة ! ”

ضحكت نهلة و قالت :

” سأتزوج من شقيق زوجك حتى آتي للعيش معك ! لن تتخلصي مني ! ”

و استمرت في الضحك …

الجملة أثارتني كثيرا … غضبت و قلت بانفعال لا يتناسب و دعابتها العفوية :

” قلت لك دعي وليد و شأنه … لا تأتي بذكر هذا ثانية أ فهمت ِ ؟؟ ”

نهلة ابتلعت ضحكتها و نظرت إلي بشيء من التعجب و الحيرة …

” ما الأمر رغد ! كنت أمزح … لم انفعلت هكذا ؟؟ ”

خجلت من نفسي فأنا لا أعرف لم انفعلت بهذا الشكل بينما هي تمزح ليس إلا …

بل ، و حتى لو كان كلامها غير مزاح … لم علي الانفعال هكذا ؟؟

اعتقد أن وجهي تورد … فنظرات نهلة توحي بأنها تلحظ شيئا غريبا على وجهي …

التفت نحو اليسار أخفي شيئا مما قد يكون ظاهرا على وجهي دون أن أملك القدرة على مواراته لكن توتري كان أوضح و أفصح من أن يغيب عن ذهن نهلة … التي تعرفني عز المعرفة …

” رغد … ماذا دهاك ؟؟ ”

” أنا ؟ لا شيء … لا شيء ”

و الآن استدرت كليا ، و أوليتها ظهري … بل و سرت نحو المجلة الموضوعة على المنضدة قرب سرير نهلة … متظاهرة بالبرود …

قالت تحاصرني :

” وليد غائب الآن ؟؟ ”

قلت :

” لا … عاد إلينا منذ يوم أمس الأول … ”

و أمسكت بالمجلة ، و جلست على السرير ، و أخذت أقلب صفحاتها و ألْهي نفسي بالتفرج على الأزياء و المساحيق و العطور … و حتى الأخبار السياسية و الرياضية … و صور اللاعبين !

” أوف ! ”

أغلقت المجلة بسرعة ، بعد أن وقعت عيناي على صورة نوّار يبتسم !

يا إلهي ! كم أنفر من هذا الشخص ! رغم أنه محبوب من قبل الكثيرين و الكثيرات !

” ماذا دهاك ؟؟ ”

” إنه ذلك المغرور ! من أمنيات حياتي … أن أتصفح مجلة ذات يوم ثم لا أجد صورة له فيها ! يا له من شخص بغيض ! أتساءل ما الذي يجذب هؤلاء البشر إليه ؟؟ دانة المسكينة ! ”

” و لم مسكينة ..؟ ألست تقولين أنها تحبه ؟؟ ”

” كثيرا ! إنه سيعود الليلة من رحلته و ستقيم الدنيا و تقعدها من أجله ! لابد أنها الآن تعد أطباق العشاء و الكعك من أجله ! الحمد لله إنني لست معها في المطبخ هذه الساعة ! ”

و ضحكنا بمرح …

ثم قالت :

” و خطيبك سيرحل اليوم ؟ ”

” نعم … خلال ساعتين ”

” إذا … ألا يجدر بك أن تكوني معه الآن ؟؟ ”

وقفت … و سرت في الغرفة بضع خطوات حائرة … فقد خرجت من منزلي منذ الصباح ، و هاهي الساعة تتجاوز الثالثة ظهرا … و لابد أن سامر ينتظر عودتي الآن …

قلت :

” إنه مع وليد … الكل محتفٍ بعودته و مشغول به ! من سيذكرني هذه اللحظة ؟؟ ”

قالت :

” هل سيرحل وليد عاجلا ؟ ”

” لا .. على ما أظن و أتمنى ”

” تتمنين ؟؟ ”

وقعت ُ في شركي ! قلت محاولة التصحيح و التعديل :

” أقصد نتمنى جميعا … فلا أحد يود رحيله و والداي سيحزنان كثيرا جدا كالمرة السابقة و التي سبقتها إن رحل … أتمنى أن يستقر هنا و يريح الجميع ”

ربما كان الحمرة تعلو وجهي هذه المرة أيضا …

و الآن … إي شيء أشغل يدي به تغطية على اضطرابي هذا ؟ ألا يوجد في الغرفة مجلة أخرى …؟؟

وقع بصري على مجموعة زجاجات العطر أمام مرآة الغرفة ، فذهبت أليها أشمها واحدة تلو الأخرى …

أقبلت نهلة و وقفت إلى جانبي …

قالت :

” ربما لديه ارتباطات هامة هناك ! عمل … منزل … عائلة … زوجة ! ”

استدرت إليها و قد اكفهر وجهي … و قلت بسرعة :

” إنه غير متزوج ”

” أحقا ؟؟ ”

كانت نظراتها تشكيكية مخيفة ! قلت :

” طبعا ! و هل تظنين أنه سيتزوج دون إبلاغنا ! مستحيل ! ما يبقيه هناك هو العمل … ليته يجد فرصة للعمل هنا و يستقر معنا … ”

قالت :

” لتضمنوا عدم رحيله … زوجوه ! ”

و أضافت و هي تبتسم بمكر :

” أنتم الثلاثة في ليلة واحدة ! و نتخلص منكم ! ”

رفعتُ إحدى زجاجات العطر أمام وجهها بغتة و تأهبتُ لرش العطرعلى عينيها !

” أوه لا لا رغد كنت أمزح ! ”

و فرّت و صرت أطاردها حتى جلسنا على السرير نضحك بشدة !

بعد قليل … قلت :

” علي العودة للبيت ! سامر ينتظر اتصالي ! ”

و قمت ، متوجهة إلى الهاتف الموضوع على مكتب نهلة …

و اتصلت بالمنزل … و إذا بالدماء تتصاعد من جديد و بغزارة إلى وجهي … و نهلة تقترب مني و تراقبني …

” وليد ؟ إنها أنا ”

” ( مرحبا … رغد ) ”

” إمم .. أود التحدث إلى سامر ”

” ( سامر … أظنه يستحم الآن ! هل تريدين شيئا ؟ ) ”

” أأأ … أريد أن يأتي إلي ّ … هل لا أبلغته بأنني أنتظره ؟ ”

” ( حسنا ) ”

” شكرا ”

” العفو … صغيرتي ”

 

و أغلقت السماعة بصعوبة … فقد كانت يدي ترتجف !

و بدأت أتنفس بعمق و أشعر بالحر … و أيضا … أتصبب عرقا !

نهلة وقفت أمامي مباشرة تشاهد الاضطراب الذي اعتراني فجأة … بحيرة و فضول

” رغد … ”

” نعم ؟؟ ”

” لماذا تنفعلين كلما جيء بذكر وليد !؟ ”

” أنا ؟؟ من قال ذلك !؟ ”

و مدت نهلة يدها و تحسست جبيني براحتها …

” إنك تغلين ! وجهك أحمر ناضج و جبينك مبلل بالعرق ! ”

أربكتني كثيرا كلمات نهلة … و حاولت التملص من نظراتها لكنها حاصرتني …

ابتعدت عنها و ذهبت إلى حيث أضع عباءتي لأرتديها استعدادا للمغادرة !

” و لكن خطيبك لم يحضر بعد ! ”

” سأستعد … ”

كنت أريد أن أنشغل بشيء بعيدا عن نظرات نهلة التي تخترق أعماقي …

كنت أضبط حجابي مولية إياها ظهري …

قالت :

” خطيبك شاب جيد يستحق فتاة رائعة مثلك ! ”

تابعت ترتيب حجابي دون أن أعير جملتها هذه اهتماما …

قالت :

” و أخي شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلك ! ”

و لم ألتفت إليها ! حتى لا أدع لها مجالا لفتح الموضوع مجددا !

و تابعت ارتداء عباءتي …

” و وليد شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلي ! ”

استدرت فجأة نحو نهلة … باضطراب و توتر و انزعاج جلي شديد ! …

اصطدمت نظراتنا الحادة العميقة … و بقينا لبضع ثوان نحملق في بعضنا البعض …

نهلة أوقعت بي …

إنها خبيثة !

كنظراتها التي ترشقني بها الآن …

أتت نحوي … و رفعت يدها و أمسكت بعباءتي و سحبتها …

” رغد يا ابنة خالتي العزيزة … لن تخرجي من هنا حتى أعرف ما حكايتك مع وليد ! ”

بعد عشر دقائق كنت أجلس في السيارة إلى جانب سامر …

” هل تحبين أن نتجول قليلا قبل العودة ؟؟ ”

” كما تشاء ”

قضينا قرابة الساعة نجول في شوارع المدينة … و نتبادل الأحاديث …

سامر … و الذي لم يجد الفرصة السانحة قبل الآن لفتح الموضوع ، سرعان ما تطرق إليه …

” الوقت يمضي يا رغد … لقد بدأت أضيق ذرعا بالوحدة هناك … لا أريد أن أخسر وظيفة ممتازة كهذه ، لكنني لا أريد أن أبقى بعيدا أطول من ذلك … ”

حرت و لم أجد تعقيبا ملائما … و ربما صمتي أحبط سامر … ففقد حماسه للمتابعة بعد بضع جمل …

حينما وصلنا إلى المنزل ، وجدنا والدي ّ و وليد يجلسون في الفناء الخارجي ، حول الطاولة الصغيرة القريبة من الشجرة الطويلة ، بجانب الباب الداخلي …

كان الجو جميلا … و العصافير تغرد بحماس على أغصان الشجرة … و الدخان يتصاعد من أقداح الشاي الموزعة على الطاولة …

سامر كان يمسك بيدي ، ثم أطلقها و سار نحوهم بسرعة …

” شاي أم وليد ! أين نصيبي ؟؟ ”

و انضم إليهم …

ألقيت نظرة على وليد فرأيته ينظر نحوي و لكن سرعان ما بدد نظراته نحو الفراغ … لم يكن يريد النظر إلي …

علي أن أنصرف قبل أن ينهض مغادرا ظانا بأنني سأنضم إليهم …

توجهت نحو الباب و دخلت إلى الداخل …

كنت بالفعل أتمنى أن أشاركهم ! و لكن لو فعلت … فبالتأكيد سيغادر وليد …

ما أن دخلت حتى وصلتني رائحة الكعك الشهية ! و سرت إلى المطبخ !

” دانه ! رائحة كعكتك زكية جدا ! دعيني أتذوقها ! ”

” عدت ِ أخيرا ! لا يا عزيزتي ! هذه لنوّار و نوّار فقط ! ”

” و هل سيأكل الكعكة كاملة ! مسكين ! كيف سيلعب إذا انفجرت معدته ؟ ”

نظرت إلي ّ بانزعاج و صرخت :

” رغد … انصرفي فورا ! ”

ضحكت و خرجت ، متوجهة إلى غرفتي حيث وضعت حقيبتي و عباءتي ، و وقفت أمام المرآة أتأمل وجهي …

لم يكن الإفلات من محاصرة نهلة سهلا … أي حكاية لي مع وليد ؟؟؟ ما أكثر الحكاي

رواية انت لي

الحلقة الثامنة عشرالجزء 1

أفقت من غفوتي القصيرة …

كنت أجلس على أريكة بمحاذاة الشاطئ ، تتدلى قدماي في مياه البحر و تعانقان أمواجه الراقصة …

الهواء كان منعشا جدا و البحر غاية في الجمال … منظر لم تره عيناي منذ سنين

إنها المرة الأولى منذ تسع سنين ، التي يبتهج فيها صدري و أنا بين أهلي و أحبابي …

أصوات مجموعة من الأطفال تغلغلت في أعماق أذني و أيقظتني من راحتي النادرة

ما إن فتحت عينيّ الناعستين حتى تلقتا منظرا جعلني أقف منتصبا فورا !

كانت رغد … صغيرتي الحبيبة … خطيبة أخي الوحيد … تجلس على الرمال المبللة تعبث بالماء … إلى جواري تماما !

نهضت و قد أصابني الروع !

و سرعان ما هبت هي الأخرى واقفة ، تنظر إلي …

وجّهتُ سهام بصري إلى البحر … ليبتلع أي شعور يفكر في الاستيقاظ في داخل قلبي … و خطوت مبتعدا عنها

استوقفتني ، فأخبرتها بأنني ماض للسباحة فقالت بسرعة :

” انتظر ! سأعود لأمي … ”

لم أعرف ما إذا كانت تقصد مني مرافقتها أو مراقبتها تحديدا ، إلا أنها حين سارت مبتعدة بقينا أنا و سامر ـ و الذي خرج من الماء للتو و وقف إلى يساري لا يفصلني عنه غير شبرين ـ نراقبها و هي تبتعد …

و حين ظهر فتى في طريقها يريد أخذ كرة القدم التي تدحرجت منه نحوها ، اضطربت صغيرتي … و استدارت نحونا … و أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي اليمنى و اختبأت خلفها !

أنا طبعا وقفت كالجدار لا أحس بشيء مما حولي و لا أعرف ماذا يحدث و ماذا علي أن أفعل !

أردت أن أسحب ذراعي لكنها غرست أظافرها بي و آلمتني …

الفتى ذاك كان يحمل الكرة و ينظر بتعجب نحونا

و أمي و دانه أيضا تنظران بتعجب

أما النظرات التي لم أعرف ما طبيعتها هي نظرات أخي سامر …

” صغيرتي … صغيرتي … لا بأس عليك … اهدئي أرجوك ”

رغد الآن تنظر إلى و قد اغرورقت عيناها بالدموع ، و قالت بانفعال و اضطراب :

” لماذا لم تأتِ معي ؟ لماذا تركتني وحدي ؟ هل تريد أن يؤذيني أحد بعد ؟ ”

كلمتها هذه جعلت عضلاتي تنقبض جميعها فجأة ، و لا شعوريا مسكت أنا بيديها و شددت عليهما بقوة …

لحظة جحيم الذكرى … و أعيينا تحدق ببعضها البعض بحدة … من عيني يقدح الشرر الحارق … و من عينها تنسكب الدموع المجروحة … و في بؤبؤيها أرى عرضا للشريط المشؤوم اللعين … و صورة لعمّار يبتسم … و الحزام يتراقص …

” لكنت ُ قتلته ”

نطقت بهذه الجملة لا إراديا و أنا أحدق بها في نظرات ملؤها الشر … و القهر …

لقد شعرت بأشياء تتمزق بداخلي … و أشياء تعتصر … و أشياء تتوجع و تصرخ …

كيف لي أن أتحمل موقفا كهذا ؟؟

لو ظل سامر صامتا ، ربما بقيت شهورا واقفا عند نفس النقطة ، إلا أن صوته قطع الحبال المشدودة و أرخى العضلات المنقبضة

” رغد … ”

أطلقنا نظراتنا المقيدة ببعضها البعض و سمحنا لها بالانتقال إلى عيني سامر …

لا يخفى عليكم الذهول و الحيرة و الدهشة التي كانت تغلف وجه سامر الواقف ينظر إلينا …

قال :

” رغد … عزيزتي … ”

و لم ينطق بعدها بجملة واضحة تفسر التعبيرات الغامضة المرسومة على وجهه الحائر …

رغد الآن بدأت تمسح دموعها و قد هدأت نوعا ما …

الآن … تصل أمي و أختي … و تستدير رغد إليهما ، و تنطق بمرارة :

” قلت لك لا أستطيع … لا أريد المجيء … لا أستطيع … لا تتركوني وحدي ”

و انخرطت في مزيد من البكاء المؤلم

أمي أحاطتها بذراعيها و أخذت تتمتم بكلمات لم استطع استيعابها من هول ما أنا فيه …

ثم رأيتهن هن الثلاث ، رغد و أمي و دانة ، يبتعدن عائدات من حيث أتين …

سامر ظل واقفا لثوان أخرى ، ثم هم باللحاق بهن … و حانت منه التفاتة إلي … فرآني و أنا أنهار على الرمال و أضغط بيدي على معدتي و أتأوه ألما …

لقد شعرت بأشياء تتمزق و تعصر في أحشائي … و دوار داهمني دون إنذار مسبق … و خور و وهن مفاجئ في بدني … فهويت أرضا …

كنت أعرف أن قلبي ينزف من الداخل ، كما تنزف أنسجة جسدي كله من شدة الموقف و قسوته … و شعرت بالدماء تجري بكل الاتجاهات في جسمي … و أحسست بها تصعد من جوفي … و تملأ فمي … ثم تخرج و تنسكب على الرمال ملونة إياها هي و يدي المرتكزة عليها باللون الأحمر …

الآن … تستطيع عيناي رؤيتها بوضوح … تماما كما ترى النور …

دماء حقيقية خرجت من جوفي ممزوجة بعصارة معدتي المتلوية ألما …

” وليد ! ”

رفعت رأسي ، فإذا بي أرى سامر ينظر إلى موضع الدماء بذعر …

” ما هذا ؟؟ ”

ما هذا ؟ أظن أنها دماء ! و هي المرة الأولى التي تخرج فيها دمائي من جوفي … و أنا أشعر بألم حاد جدا في معدتي …

ما هذا ؟

أظن أن هذا عرضٌ لمرض ٍ ما …

 

بعد فترة … كنا نجلس قرب موقد الجمر ، نستنشق الأدخنة المتصاعدة من المشويات … و نتلذذ برائحتها الشهية …

كان والدي يقلب الأسياخ و يهف الجمر … و كلما نضج اللحم في أحد الأسياخ دفعه إلى واحد منا ، فيلتهمه بشهية كبيرة …

و الآن جاء دوري …

” تفضل يا وليد ”

كنت أود مشاركتهم هذه الوجبة اللذيذة التي لم أذق لها مثيلا منذ سنين … لكن الآلام الحادة في معدتي حالت دون إقبالي على الطعام …

” شكرا أبتاه … لا أستطيع التهامها فمعدتي مضطربة جدا ”

قال سامر :

” لقد تقيأ دما قبل قليل ”

الجميع ينظر إلى الآن بقلق …

ابتسمت و قلت :

” ربما أكلت شيئا لم تتقبله ! لا تكترثوا ”

أمي قالت بقلق :

” بني … عساه خيرا ؟؟ ”

” لا تقلقي أماه … ستهدأ بالصيام لبعض الوقت ”

ثم حاولت تغيير مجرى الحديث …

أبي مد سيخ اللحم المشوي نحو الشخص التالي قائلا :

” نصيبك يا رغد ”

رغد كانت تجلس على مؤخرة البساط ، بعيدة عن موقد الجمر الذي نجتمع قربه …

رغد نهضت ، و أقبلت نحونا و مدت يدها و أخذت السيخ ، ثم همت بالعودة إلى المؤخرة …

نهضت أنا و قلت :

” تفضلي هنا … أنا سأتمشى قليلا ”

و ابتعدت كي أدع لها المجال لتجلس مكاني ، قرب الجميع … و تستمتع معهم بوجبة الشواء الشهية …

ذهبت أولا نحو سيارة أخي ، و استخرجت علبة السجائر التي كنت أضعها في جيب بنطالي الذي استبدلته بملابس السباحة … ثم انطلقت إلى البحر … و جلست على الرمال … أدخن بشرود

صوت أبي الجهور كان يصلني خافتا ضاحكا … إذن فالجميع يستمتعون بوقتهم … كم أتمنى لو أعود للحياة الدائمة معهم … ليتني أستطيع ذلك …

ليتني أستطيع رمي الماضي في قلب البحر … و نسيانه …

بعد قرابة النصف ساعة جاءتني دانة

ابتسمت عند رؤيتي لها ، فابتسمت هي الأخرى إلا أنها سرعان ما حملقت بي بتعجب …

” أنت تدخّن ؟؟ ”

مرّغت السيجارة التي كانت في يدي في الرمل المبلل ، إلى جوار أختها السابقة … و ابتسمت ابتسامة واهنة تنم عن الاستسلام و القنوط …

” عادة سيئة … لا خلاص منها ! ”

دانه جلست إلى جانبي و أخذت تراقب الأمواج المتلاطمة … ثم قالت :

” لم أكن أعلم بذلك ! لو كان نوّار يدخن لرفضت الارتباط به ! لا أطيق رائحة هذه المحروقة السامة ! ”

قلت ببعض الخجل :

” معذرة ”

ثم أضافت مداعبة :

” و على فكرة … فإن جميع الفتيات مثلي أيضا ! و إن استمررتم في التدخين فسوف تسببون أزمة عزّاب و عوانس ! ”

أطلقتُ ضحكة عفوية على تعليقها خرجت من أعماق صدري ممزوجة ببقايا الدخان!

قلتُ بعد ذلك :

” إذن … هل استعديتما للزفاف ؟؟ ”

بشيء من الخجل قالت :

” تقريبا … إنه يريد أن نتزوج بعد عودة والديّ من الحج مباشرة ! أبي يود تأجيل ذلك شهرين أو ثلاثة … أما والدتي فتراه موعدا مناسبا جدا ، و تريد أن يتزوج سامر و رغد معنا دفعة واحدة ! ”

و هذا خبر ليس فقط يحبس الأنفاس في صدري و يعصر معدتي ، بل و يستل روحي من جسدي … و لن أعجب إن رأيتها تنسكب على الرمال أمامي كما انسكبت دمائي قبل قليل !

في هذه اللحظة أقبل سامر و رغد … لينضموا إلينا

قال سامر :

” هل لنا بالانضمام إليكما ؟ تركنا الوالدين يشويان السمك ! ”

قالت دانة ضاحكة :

” أوه أمي ! من سيلتهم المزيد ؟ أخبرتها ألا تحضر السمك و لكنها مولعة به كثيرا ! ”

و استدارت نحوي :

” وليد كيف معدتك الآن ؟ ألا تحب أن تتناول بعض السمك المشوي ؟؟ ”

” كلا ، لا طاقة لي بالطعام هذه الليلة ”

و جلس سامر إلى جانبي الآخر ، و رغد إلى جانب دانة …

قال :

” فيم كنتما تتحدثان ؟؟ ”

قالت دانة :

” فيكما أنت و رغد ! كنت أخبر وليد أنكما حتى الآن لم تتخذا قرارا نهائياحاسما بشأن موعد الزفاف ! ”

سامر ابتسم و قال :

” أنا جاهر و في انتظار أوامر العروس ! ”

العروس هي رغد ! و رغد هي صغيرتي الحبيبة … التي كنت أحلم بالزواج منها ذات يوم … ثم فقدتها للأبد … فهل لكم أن تتخيلوا حالي هذه اللحظة ؟؟

قالت دانة :

” هيا يا رغد ! قولي نعم و دعينا نحتفل سوية ! ”

ثم غيرت النبرة و قالت مداعبة :

” و لكن كوني واثقة من أنني سأكون الأجمل بالتأكيد ! ”

أذناي طارتا نحوها ، حتى كادتا تلتصقان بشفتيها أو حتى تخترقان أفكارها لأعلم ما ستقوله قبل أن تقوله … تكلمي رغد ؟؟

رغد ظلت صامتة … و أنا أذناي تترقبان بصبر نافذ … هيا يا رغد قولي أي شيء … ارمني بسهام الموت واحدا بعد الآخر …

اطعنيني بخناجر الغدر و حطمي قفصي الصدري و مزقي الخافق الذي ما فتئ يحبك مذ ضمك إليه طفلة يتيمة وحيدة … توهم أنها خلقت من أجله فجاءت قذائفك تدمر قلعة الوهم التي بنيتها و عشت بداخلها 15 عاما … أو يزيد …

و أقسم … أقسم أنك لو تزوجت مع شقيقتي في نفس الليلة ، فإني سأتخلى عنها و أخذلها و أدفن نفسي بعمق آلاف الأميال تحت الأرض ، لئلا أحضر أو أشارك أو أبارك ليلة تزفين فيها إلى غيري … مهما كان …

بعد كل هذه المشاعر التي تصارعت في داخلي في ارتقاب كلمتها التالية … و أذاني تصغيان باهتمام و تركيز شديدين أكاد معهما أسمع دبيب النمل …

بعد كل هذا … جاءني السهم المباغت التالي :

” وليد … ما رأيك ؟؟ ”

أنى لي أن أصف ما أود وصفه و أنا بحال كهذه ؟؟

تسألينني أنا عن رأيي ؟؟ رأيي في ماذا ؟؟

في أن تتزوجي شقيقي اليوم أو غدا أو بعد قرن ؟؟

في أن تذبحيني اليوم أو غدا … أو بعد قرن ؟؟

أتشهد أيها البحر ؟؟

ألا يا ليتك تبتلعني هذه اللحظة … فأمواجك العاتية ستكون أكثر لطفا و رحمة بحال رجل تسأله حبيبة قلبه : ما رأيك بموعد زفافي !

تحركت يداي إلى علبة السجائر الموضوعة على الأريكة الجالسة خلفي ، و تناولت واحدة و أشعلتها في محاولة مستميتة للفرار من جملة رغد ، التي كنت قبل ثواني أتوق لسماعها و أرسل أذنيّ نحو لسانها لالتقاط الجملة بسرعة فور خروجها …

بدت اللحظة التالية كالساعة بل كالقرن في طولها ..

سحبت نفسا عابقا بالدخان المنبعث من السيجارة المضغوطة بين شفتي …

و أطلقت زفرة قوية … حسبت معها أن روحي قد انطلقت ، و الدخان قد لوث الكرة الأرضية بكاملها …

قلت … بعدما عثر لساني على بضع كلمات مرمية على جانبية :

” الأمر عائد إليكما ”

و وقفت …

و قلت :

” معذرة … سأدخن في مكان آخر ”

و انصرفت عنهم …

سرت ُ مبتعدا ، و وقفت موليا إياهم ظهري … انفث السموم من و إلى صدري و أقاوم آلام قلبي و معدتي … و أحترق .

بعد فترة ، انتهت رحلتنا و آن أوان العودة إلى البيت …

لم أكن أريد أن أركب سيارة سامر … فقربه و قربها مني يعني مزيدا من الألم و الاحتراق ، لكنني حين رأيت دانة تركب سيارة والدي ، و رغد تقف عند سيارة سامر … توجهت تلقائيا و جلست على المقعد الأمامي ، لأمنعها من الجلوس عليه !

مشوار العودة كان طويلا مملا … فقد التزمنا الصمت … و رغد نامت !

” وصلنا عزيزتي ! ”

قال سامر ذلك و هو يلتفت إلى الوراء ، ليوقظ رغد …

كنا قد وصلنا قبل الآخرين …

فتحت أنا الباب و هبطت من السيارة ، و رأيت رغد تستفيق …

ذهبت إلى مؤخرة السيارة أفرغ حقيبتها من حاجيات الرحلة ، ثم أحملها إلى داخل المنزل …

و أقبل سامر يساعدني ، و حين وصلت إلى الباب ، جاءت رغد بمفتاح سامر و فتحته لي … و انطلقت مسرعة نحو الباب الداخلي تفتحه على مصراعيه لأدخل بما تحمل يداي ، و أتجه نحو المطبخ …

وضعت الأشياء في المطبخ و استدرت راغبا في العودة لجلب البقية … رغد واقفة عند باب المطبخ تراقبني …

حين مررت منها …

” وليد ”

وقفت … و عاودني الشعور بالألم في معدتي فجأة … يكفي أن أسمعها تنطق باسمي حتى تتهيج كل أوجاعي …

لم أرد ، و لكنني توقفت عن السير منتظرا سماع ما تود قوله …

” وليد ”

عادت تناديني … تعصرني …

” نعم ؟؟ ”

قالت :

” ألم يعد يهمك أمري ؟؟ ”

فوجئت بسؤالها هذا فالفت إليها مندهشا …

كانت عيناها حمراوين ربما من أثر النوم … و لكن القلق باد عليهما …

” لم تقولين ذلك !؟ ”

قالت :

” لم لم تبد ِ رأيك بشأن زواجي ؟؟ ”

تصاعدت الدماء المحترقة إلى شرايين وجهي و ربما إلى حلقي لكنني ابتلعتها عنوة

قلت :

” إنه أمر يخصكما وحدكما … و لا شأن لي به ”

رغد هزت رأسها اعتراضا ثم قالت :

” لكن وليد … أنا … ”

و لم تتم الجملة ، إذ أن أخي سامر أقبل يحمل بعض الأغراض ، فسرت أنا خارجا لجلب المتبقي منها …

فيما بعد ، و سامر يحمل بطانية و وسادة قاصدا الذهاب للنوم في غرفة الضيوف و تركي أنام في غرفته ، كما أصر … و قبل أن يخرج من الغرفة توقف و قال :

” وليد … هل لي بسؤال ؟ ”

” تفضل ؟؟ ”

تأملني لحظة ثم قال :

“وليد … لماذا … قتلت عمّار ؟؟ ”

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

 

 

ذهبت مباشرة إلى غرفتي ، قبل أن تحضر أمي و دانه ثم تطلبان مني مساعدتهما في الغسل و التنظيف …

فأعمال المنزل هي آخر آخر شيء أفكر بالقيام به في هذه الساعة ، و هذه الحال

يكاد قلبي ينفطر أسى … لحقيقة مرة أتجرعها رغما عني

وليد لم يعد يهتم لأمري … و لم أعد أعني له ما كنت و أنا طفلة صغيرة …

ربما ظن الجميع أنني أويت لفراشي و نمت … فعادتي أن أنام مبكرة ، إلا أنني قضيت ساعات طويلة في التفكير و الحزن … و الألم و الدموع أيضا

لماذا يعاملني وليد بكل هذا الجفاء و يبتعد كلما اقتربت ؟؟

و دليل آخر … تكرر صباح اليوم التالي …

فقد نهضت متأخرة … و وجدت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون حول أمور شتى …

دخلت الغرفة فتوقف الجميع عن الحديث ، و ألقيت تحية الصباح … ثم خطوت باتجاه أحد المقاعد راغبة في مشاركتهم أحاديثهم …

و الذي حدث هو أن وليد نهض ، و هم بالمغادرة …

شعرت ُ بألم حاد في صدري …

قلت :

” كلا … ابق حيث أنت … أنا عائدة إلى غرفتي … اعتذر على إزعاجكم ”

و استدرت بسرعة مماثلة للسرعة التي بها انهمرت دموعي …

و غادرت المكان …

ذهبت إلى غرفتي و سبحت في بحر دموعي …

وافتني أمي بعد قليل و رأتني على هذه الحال

” رغد يا عزيزتي … لا تأخذي الأمر بهذه الحساسية ! إنه لا يقصد شيئا … لكنه الحياء ! ”

انفجرت و تفوهت بجمل لم أفكر فيها إلا بعد خروجها ، من شدة تأثري …

قلت :

” إذا كان وجودي في هذا البيت يزعجه فأنا سأرحل إلى بيت خالتي … ليأخذ حريته التامة في التجول حيثما يريد ”

أمي صدمت بما قلت ، و حملقت بي باندهاش …

” رغد ! كيف تقولين ذلك ؟؟ ”

” إنه يتعمد تجاهلي و تحاشي ّ … كأنني فتاة غريبة و موبوءة … أ لهذا الحد لم يعد يطيقني ؟ ألم أعد أعني له شيئا ؟؟ ألم يكن يعني لي كل شيء في الماضي ؟؟ ”

و سكت ّ ُ ، التقط بعض الأنفاس و أمسح الدموع بكومة من المناديل متكدسة في يدي … كنت أبكي بانفعال …

والدتي قالت فجأة :

” و الآن ؟؟ ”

نقلت بصري من كومة المناديل المبللة في يدي ، إلى عيني أمي و نظراتها المقلقة …

و الآن ؟؟

أعتقد أن أمي كانت تلمح إلى شيء ، لم تجرؤ على التصريح به … و إن قرأت بعض معالمه في عينيها …

إنها نفس النظرة التي رمقتني بها تلك الليلة ، ليلة رحيل وليد السابق ، قبل أذان الفجر …

و خفت … من الحقيقة التي لا أريد أن أكتشفها أو يكتشفها أي كان … حقيقة الشعور بالحرارة التي تتأجج داخلي كلما كان وليد على مقربة ..

 

في ذات اليوم ، أصررت على الذهاب إلى بيت خالتي و تناول الغذاء مع عائلتها

كنت أريد أن أبتعد مسافة تسمح لي بالهدوء ، فنبضاتي لا يمكن أن تهدأ و وليد في مكان قريب …

هناك فوجئت بأمر آخر !

خالتي انفردت بي لبعض الوقت في إحدى الغرف و بدون أية مقدمات سألتني :

” هل صحيح أنك … أنك لا ترغبين في الزواج من ابن عمك سامر ؟؟ ”

دهشت و هالني ما سمعت … قلت بذهول :

” أنا ؟ من … قال ذلك ؟؟ ”

خالتي كانت تحدثني بجدية و قلق واضحين …

قالت :

” لقد سمعَتْك سارة تخبرين نهلة بهذا ذات مرة … و ذكرت الأمر على مسمع مني و من حسام … و من حينها و هو و أنا معه في جنون ! ”

لم أع ِ الأمر بالسرعة المفروضة ، بل بقيت أحملق بدهشة و بلاهة في عيني خالتي … و ربما هي فسرت صمتي موافقة على ما تقول …

” رغد … أخبريني بكل شيء … فإن لم تكوني ترغبين في الزواج من ذلك المشوه فثقي بأنني لن أسمح لهذا الزواج بأن يتم أبدا ”

 

 

 

فيما بعد ، كنت أجلس مع نهلة في غرفتها دون وجود سارة ـ لوحدنا أخيرا !

قلت :

” و تقولين أنها لا تعي شيئا ؟ إنها أخطر مما ظننت ! يا لجرأتها … كيف تخبر خالتي و حسام بأمر كهذا !؟ هل أنا قلت ذلك ؟؟ ”

نهلة تنهدت و قالت :

” هذا ما ترجمه دماغها الصغير ! لقد قلت أنك لا تريدين الزواج الآن ! أخضعتني أمي لاستجواب مكثف ، و أخي حقق معي مطولا بسبب هذا الأمر ! ”

” يا إلهي ! ”

ابتسمت نهلة ابتسامة سخرية ماكرة ، ثم وقفت فجأة و نفخت صدرها هواء ً ، و رفعت كتفيها عاليا ، و قطبت حاجبيها و عبست بشكل غريب مرعب و قالت بنبرة خشنة ـ تقلد حسام :

” أمي يجب أن تتأكدي من الأمر لأنني إن اكتشفت أنهم أرغموها على هذا الزواج أو استقلوا كونها يتيمة و صغيرة و ضعيفة ، فأقسم بأنني سأشوه النصف الآخر من وجه ذلك اللئيم الماكر ”

قفزت أنا واقفة بغضب …

” نهلة ! ”

ألا أنها تابعت تمثيل المشهد :

” قلت لك يا أمي … تدخلي و امنعي هذا الارتباط منذ البداية … أترين أن فتاة في الرابعة عشر هي مدركة بالقدر الكافي لتحديد مصيرها في أمر كهذا ؟؟ كيف تجرءوا على فعل هذا كيف ؟؟ كيف ؟؟ ويل لذاك المشوه مني ”

” يكفي نهلة … ”

قلت ُ بعصبية ، فعادت نهلة إلى شخصيتها الطبيعية ، و قالت :

” هذا ما كان يحصل كل يوم ! تعرفين أن حسام يبغض خطيبك من ذلك الحين ! ”

قلت :

” لا أقبل أن ينعته أحد بالمشوه … و تشوه وجهه ليس شيئا يستحق أن يعير عليه”

نهلة جلست على السرير ، و قالت :

” ليس بسبب التشوه هو ناقم منه ! تعرفين ! إنه بسببك أنت ! لازال مولعا بك ! ”

انزعجت من هذا … فقد كنت أظن أن الأمر قد انتهى … لكن …

” أرجوك نهلة لنغير الموضوع … لقد أكدتُ لوالدتك أن سارة فهمت خطأ … و إن بدا عليها عدم الاقتناع … لكن لندع الأمر ينتهي الآن … ”

و أتيت و جلست قربها … ثم اضطجعتُ مسترخية على السرير …

” إذن … ماذا قررت ؟ مع دانة أم بعدها ؟؟ ”

تنهدت بانزعاج من الموضوع برمته … قلت :

” لم أقرر يا نهلة … لماذا يطاردني الجميع بهذا السؤال ؟؟ ”

نهلة أمسكت بيدي اليمنى و أخذت تحرك خاتم الخطوبة حول إصبعي البنصر و تقول :

” لأن هذا الخاتم سئم البقاء حول هذا الإصبع ! إنها أربع سنوات يا رغد ! ”

قلت :

” لكنني لا أزال صغيرة ! ألا ترين ذلك ؟؟ أريد أن أتخرج من الجامعة أولا.. و أريد أن … تتغير علاقتي بسامر فأنا لا أشعر بشيء مميز تجاهه ”

كنت أنظر إلى السقف ، و لكن رأس ابنة خالتي ظهر أمامي فجأة … و أجبرني على النظر إلى عينيها …

قالت :

” تقصدين لا تحبينه … ”

و كان تقريرا إجباريا لا سؤالا …

التفت يمينا فأمسكت هي بوجهي و أعادته حيث كان و أجبرتني على النظر إلى عينيها الناطقتين بالحق …

” لا تهربي رغد ! أنت ِ لا تحبينه ! ”

استسلمت … و غضضت بصري … أتحاشى تلك النظرة الثاقبة الفاهمة …

نهلة هي أكثر شخص يفهمني و أبوح إليه بأسراري و كل ما يختلج مشاعري …

نهلة مسحت على رأسي بعطف و قالت :

” رغد … لا تتزوجيه إذا لم تكوني ترغبين في ذلك … إنه كالأخ بالنسبة إليك ! أبقيه أخا فأنت بحاجة إليه كأخ لا كزوج ! ”

” نهلة ! … ”

و ضربت أنفي بإصبعها ضربة خفيفة و هي تقول :

” أليس كذلك ؟؟ ”

عدت أحدق بها … في حيرة من أمري …

قلت :

” من أتزوج إذن ؟؟ ”

هي ابتسمت و قالت بمكر :

” أخي حسام ! ”

رفعت رأسي و صدمت جبينها بجبيني عمدا ثم جلست و أخذت هي تمثل دور المتألمة !

” آه … رأسي ! كسر في الجمجمة ! انجدوني ! ”

قلت بنفاذ صبر :

” قلت لك ِ ! لا تتوبين !”

قالت و قد بدت عليها الجدية الآن :

” صدقيني يا رغد … إنه مهووس بك ! ”

قلت :

” و الآخر كذلك ! لم تظنينه يلح علي بالزواج ؟ إما أن نتزوج أو يفتش عن وظيفة أخرى تبقيه قربي ! ”

قالت ، تنظر إلي بعين شبه مغمضة و حاجبيها مرفوعين أقصاهما :

” من مثلك ! عاشقان في وقت واحد ! يا للحظ ! كم أنا مسكينة ! ”

” قلت لك لا تتوبين ! أوه نهلة ! لسوف أطلب من خالتي التفتيش عن عريس لك حتى أتخلص منك كما تخلصت من دانة ! ”

ضحكت نهلة و قالت :

” سأتزوج من شقيق زوجك حتى آتي للعيش معك ! لن تتخلصي مني ! ”

و استمرت في الضحك …

الجملة أثارتني كثيرا … غضبت و قلت بانفعال لا يتناسب و دعابتها العفوية :

” قلت لك دعي وليد و شأنه … لا تأتي بذكر هذا ثانية أ فهمت ِ ؟؟ ”

نهلة ابتلعت ضحكتها و نظرت إلي بشيء من التعجب و الحيرة …

” ما الأمر رغد ! كنت أمزح … لم انفعلت هكذا ؟؟ ”

خجلت من نفسي فأنا لا أعرف لم انفعلت بهذا الشكل بينما هي تمزح ليس إلا …

بل ، و حتى لو كان كلامها غير مزاح … لم علي الانفعال هكذا ؟؟

اعتقد أن وجهي تورد … فنظرات نهلة توحي بأنها تلحظ شيئا غريبا على وجهي …

التفت نحو اليسار أخفي شيئا مما قد يكون ظاهرا على وجهي دون أن أملك القدرة على مواراته لكن توتري كان أوضح و أفصح من أن يغيب عن ذهن نهلة … التي تعرفني عز المعرفة …

” رغد … ماذا دهاك ؟؟ ”

” أنا ؟ لا شيء … لا شيء ”

و الآن استدرت كليا ، و أوليتها ظهري … بل و سرت نحو المجلة الموضوعة على المنضدة قرب سرير نهلة … متظاهرة بالبرود …

قالت تحاصرني :

” وليد غائب الآن ؟؟ ”

قلت :

” لا … عاد إلينا منذ يوم أمس الأول … ”

و أمسكت بالمجلة ، و جلست على السرير ، و أخذت أقلب صفحاتها و ألْهي نفسي بالتفرج على الأزياء و المساحيق و العطور … و حتى الأخبار السياسية و الرياضية … و صور اللاعبين !

” أوف ! ”

أغلقت المجلة بسرعة ، بعد أن وقعت عيناي على صورة نوّار يبتسم !

يا إلهي ! كم أنفر من هذا الشخص ! رغم أنه محبوب من قبل الكثيرين و الكثيرات !

” ماذا دهاك ؟؟ ”

” إنه ذلك المغرور ! من أمنيات حياتي … أن أتصفح مجلة ذات يوم ثم لا أجد صورة له فيها ! يا له من شخص بغيض ! أتساءل ما الذي يجذب هؤلاء البشر إليه ؟؟ دانة المسكينة ! ”

” و لم مسكينة ..؟ ألست تقولين أنها تحبه ؟؟ ”

” كثيرا ! إنه سيعود الليلة من رحلته و ستقيم الدنيا و تقعدها من أجله ! لابد أنها الآن تعد أطباق العشاء و الكعك من أجله ! الحمد لله إنني لست معها في المطبخ هذه الساعة ! ”

و ضحكنا بمرح …

ثم قالت :

” و خطيبك سيرحل اليوم ؟ ”

” نعم … خلال ساعتين ”

” إذا … ألا يجدر بك أن تكوني معه الآن ؟؟ ”

وقفت … و سرت في الغرفة بضع خطوات حائرة … فقد خرجت من منزلي منذ الصباح ، و هاهي الساعة تتجاوز الثالثة ظهرا … و لابد أن سامر ينتظر عودتي الآن …

قلت :

” إنه مع وليد … الكل محتفٍ بعودته و مشغول به ! من سيذكرني هذه اللحظة ؟؟ ”

قالت :

” هل سيرحل وليد عاجلا ؟ ”

” لا .. على ما أظن و أتمنى ”

” تتمنين ؟؟ ”

وقعت ُ في شركي ! قلت محاولة التصحيح و التعديل :

” أقصد نتمنى جميعا … فلا أحد يود رحيله و والداي سيحزنان كثيرا جدا كالمرة السابقة و التي سبقتها إن رحل … أتمنى أن يستقر هنا و يريح الجميع ”

ربما كان الحمرة تعلو وجهي هذه المرة أيضا …

و الآن … إي شيء أشغل يدي به تغطية على اضطرابي هذا ؟ ألا يوجد في الغرفة مجلة أخرى …؟؟

وقع بصري على مجموعة زجاجات العطر أمام مرآة الغرفة ، فذهبت أليها أشمها واحدة تلو الأخرى …

أقبلت نهلة و وقفت إلى جانبي …

قالت :

” ربما لديه ارتباطات هامة هناك ! عمل … منزل … عائلة … زوجة ! ”

استدرت إليها و قد اكفهر وجهي … و قلت بسرعة :

” إنه غير متزوج ”

” أحقا ؟؟ ”

كانت نظراتها تشكيكية مخيفة ! قلت :

” طبعا ! و هل تظنين أنه سيتزوج دون إبلاغنا ! مستحيل ! ما يبقيه هناك هو العمل … ليته يجد فرصة للعمل هنا و يستقر معنا … ”

قالت :

” لتضمنوا عدم رحيله … زوجوه ! ”

و أضافت و هي تبتسم بمكر :

” أنتم الثلاثة في ليلة واحدة ! و نتخلص منكم ! ”

رفعتُ إحدى زجاجات العطر أمام وجهها بغتة و تأهبتُ لرش العطرعلى عينيها !

” أوه لا لا رغد كنت أمزح ! ”

و فرّت و صرت أطاردها حتى جلسنا على السرير نضحك بشدة !

بعد قليل … قلت :

” علي العودة للبيت ! سامر ينتظر اتصالي ! ”

و قمت ، متوجهة إلى الهاتف الموضوع على مكتب نهلة …

و اتصلت بالمنزل … و إذا بالدماء تتصاعد من جديد و بغزارة إلى وجهي … و نهلة تقترب مني و تراقبني …

” وليد ؟ إنها أنا ”

” ( مرحبا … رغد ) ”

” إمم .. أود التحدث إلى سامر ”

” ( سامر … أظنه يستحم الآن ! هل تريدين شيئا ؟ ) ”

” أأأ … أريد أن يأتي إلي ّ … هل لا أبلغته بأنني أنتظره ؟ ”

” ( حسنا ) ”

” شكرا ”

” العفو … صغيرتي ”

 

و أغلقت السماعة بصعوبة … فقد كانت يدي ترتجف !

و بدأت أتنفس بعمق و أشعر بالحر … و أيضا … أتصبب عرقا !

نهلة وقفت أمامي مباشرة تشاهد الاضطراب الذي اعتراني فجأة … بحيرة و فضول

” رغد … ”

” نعم ؟؟ ”

” لماذا تنفعلين كلما جيء بذكر وليد !؟ ”

” أنا ؟؟ من قال ذلك !؟ ”

و مدت نهلة يدها و تحسست جبيني براحتها …

” إنك تغلين ! وجهك أحمر ناضج و جبينك مبلل بالعرق ! ”

أربكتني كثيرا كلمات نهلة … و حاولت التملص من نظراتها لكنها حاصرتني …

ابتعدت عنها و ذهبت إلى حيث أضع عباءتي لأرتديها استعدادا للمغادرة !

” و لكن خطيبك لم يحضر بعد ! ”

” سأستعد … ”

كنت أريد أن أنشغل بشيء بعيدا عن نظرات نهلة التي تخترق أعماقي …

كنت أضبط حجابي مولية إياها ظهري …

قالت :

” خطيبك شاب جيد يستحق فتاة رائعة مثلك ! ”

تابعت ترتيب حجابي دون أن أعير جملتها هذه اهتماما …

قالت :

” و أخي شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلك ! ”

و لم ألتفت إليها ! حتى لا أدع لها مجالا لفتح الموضوع مجددا !

و تابعت ارتداء عباءتي …

” و وليد شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلي ! ”

استدرت فجأة نحو نهلة … باضطراب و توتر و انزعاج جلي شديد ! …

اصطدمت نظراتنا الحادة العميقة … و بقينا لبضع ثوان نحملق في بعضنا البعض …

نهلة أوقعت بي …

إنها خبيثة !

كنظراتها التي ترشقني بها الآن …

أتت نحوي … و رفعت يدها و أمسكت بعباءتي و سحبتها …

” رغد يا ابنة خالتي العزيزة … لن تخرجي من هنا حتى أعرف ما حكايتك مع وليد ! ”

بعد عشر دقائق كنت أجلس في السيارة إلى جانب سامر …

” هل تحبين أن نتجول قليلا قبل العودة ؟؟ ”

” كما تشاء ”

قضينا قرابة الساعة نجول في شوارع المدينة … و نتبادل الأحاديث …

سامر … و الذي لم يجد الفرصة السانحة قبل الآن لفتح الموضوع ، سرعان ما تطرق إليه …

” الوقت يمضي يا رغد … لقد بدأت أضيق ذرعا بالوحدة هناك … لا أريد أن أخسر وظيفة ممتازة كهذه ، لكنني لا أريد أن أبقى بعيدا أطول من ذلك … ”

حرت و لم أجد تعقيبا ملائما … و ربما صمتي أحبط سامر … ففقد حماسه للمتابعة بعد بضع جمل …

حينما وصلنا إلى المنزل ، وجدنا والدي ّ و وليد يجلسون في الفناء الخارجي ، حول الطاولة الصغيرة القريبة من الشجرة الطويلة ، بجانب الباب الداخلي …

كان الجو جميلا … و العصافير تغرد بحماس على أغصان الشجرة … و الدخان يتصاعد من أقداح الشاي الموزعة على الطاولة …

سامر كان يمسك بيدي ، ثم أطلقها و سار نحوهم بسرعة …

” شاي أم وليد ! أين نصيبي ؟؟ ”

و انضم إليهم …

ألقيت نظرة على وليد فرأيته ينظر نحوي و لكن سرعان ما بدد نظراته نحو الفراغ … لم يكن يريد النظر إلي …

علي أن أنصرف قبل أن ينهض مغادرا ظانا بأنني سأنضم إليهم …

توجهت نحو الباب و دخلت إلى الداخل …

كنت بالفعل أتمنى أن أشاركهم ! و لكن لو فعلت … فبالتأكيد سيغادر وليد …

ما أن دخلت حتى وصلتني رائحة الكعك الشهية ! و سرت إلى المطبخ !

” دانه ! رائحة كعكتك زكية جدا ! دعيني أتذوقها ! ”

” عدت ِ أخيرا ! لا يا عزيزتي ! هذه لنوّار و نوّار فقط ! ”

” و هل سيأكل الكعكة كاملة ! مسكين ! كيف سيلعب إذا انفجرت معدته ؟ ”

نظرت إلي ّ بانزعاج و صرخت :

” رغد … انصرفي فورا ! ”

ضحكت و خرجت ، متوجهة إلى غرفتي حيث وضعت حقيبتي و عباءتي ، و وقفت أمام المرآة أتأمل وجهي …

لم يكن الإفلات من محاصرة نهلة سهلا … أي حكاية لي مع وليد ؟؟؟ ما أكثر الحكاي

رواية انت لي

الحلقة الثامنة عشر الجزء 2

أريد أن أنضم إليهم !

على الأقل … سأراقبهم من النافذة !

و بسرعة خرجت من غرفتي قاصدة الذهاب إلى النافذة المشرفة على الفناء الأمامي … حيث هم يجلسون …

من تتوقعون صادفت في طريقي ؟؟

نعم وليد !

دخل للتو … و حينما رآني توقف برهة … ثم سار مغيرا طريقه …

ربما كان يود القدوم من ناحيتي إلا أنه غير مساره و انعطف ناحية المطبخ …

أ لهذا الحد لا يريد أن يراني أو حتى يمر من ممر أقف أنا فيه ؟؟

” وليد ”

ناديته بألم … إذ أن تصرفه هذا جرحني …

لم يلتف إلي ، و رد ببرود :

” نعم ؟ ”

تحشرج صوتي في حنجرتي … و بصعوبة نطقت ، فجاء صوتي خفيفا ضعيفا لم أتوقع أنه سمعه … لكنه سمعه !

” أريد أن أتحدث إليك ”

” خيرا ؟ ”

كل هذا و هو مدير ظهره إلي … أمر ضايقني كثيرا …

” وليد … أنا أحدثك ! أنظر نحوي ! ”

استدار وليد بتردد ، و نظر إلى عيني نظرة سريعة ثم طارت أنظاره بعيدا عني …

كم آلمني ذلك …

قلت :

” لماذا لا تود التحدث معي ؟؟ ”

بدا مضطربا ثم قال :

” تفضلي … قولي ما عندك ”

و تنهد بضيق …

قلت بمرارة :

” إذا كنت لا تود الاستماع إلي … و لم يعد يهمك أمري … فلا داعي لقول شيء ”

وليد التزم الصمت …

ثم و بعد أن طال الصمت بنا ، استدار راغبا في الانصراف …

أنا جن جنوني من إهماله لي بهذا الشكل … و أسرعت نحوه و قبضت على يده و قلت بحدة و مرارة :

” انتظر … ”

وليد سحب يده و استدار نحوي بغضب … و رأيت النار تشتعل في عينيه … كان مرعبا جدا …

الدموع تغلبت علي الجفون … و تحررت من قيودها و شقت طريقها بإصرار و شموخ على الخدين …

وليد توتّر … و تلفت يمنة و يسرة … ثم قال :

” لماذا تبكين الآن ؟؟ ”

قلت بعدما أغمضت عيني أعصر دموعها … ثم فتحتهما :

” لماذا لم تعد تهتم بي ؟ لماذا تتحاشاني ؟ لماذا تعاملني بهذه الطريقة القاسية و كأنني لا أعني لك شيئا ؟؟ ”

الرعب … و الذعر و الهلع … أمور أثارتها نظراته الحادة المخيفة التي رماني بها بقسوة … قبل أن يضربني بكلماته التالية :

” يا ابنة عمي … لقد كبرت ِ و لم تعودي الطفلة المدللة التي كنتُ أرعاها … أنت ِ الآن امرأة بالغة … و على وشك الزواج … لدي حدود معك ِ لا يجوز تخطيها … و لديك سامر … ليهتم بأمرك من الآن فصاعدا ”

و تركني … و سار مبتعدا إلى الناحية التي كان يريد سلكها قبل ظهوري أمامه …

اختفى وليد … و اختفت معه آمال واهية كانت تراودني … وليد الذي تركني قبل تسع سنين ، لم يعد حتى الآن ..

مسحت بقايا دموعي و آثارها … و خرجت إلى حيث كان والدي ّ و سامر يجلسون حول الطاولة …

أقبلت نحوهم فوقف سامر مبتسما يزيح الكرسي المجاور له إلى الوراء ليفسح المجال لي للجلوس …

سامر … كان دائما يعاملني بلطف و اهتمام بالغ ، و يسعى لإرضائي و إسعادي بشتى الوسائل …

اقتربت من سامر و نقلت بصري منه ، و إلى والديّ ، ثم إلى أكواب الشاي و الدخان الصاعد من بعضها … ثم إلى الخاتم المطوق لإصبعي منذ سنين … ثم إلى عيني سامر اللتين تراقباني بمحبة و اهتمام … ثم قلت :

” سامر … لقد اقتنعت … سنحتفل مع دانه ”

عرض التعليقات (10)