روايه انت لي الحلقه 48 جزء 1 و 2

17 16٬326

روايه انت لي الحلقه 48 جزء 1 و 2

روايه انت لي الحلقه 48 جزء 1

روايه انت لي الحلقه 48 جزء 1 و 2

روايه انت لي الحلقه 48 جزء 1 و 2, معكم صديقة زاكي الشيف الموهوبة ,leen

رواية انت لي

الحلقة الثامنة و الثلاثون الجزء 1

طريــــق الهـــلاك

رتبت للسفر إلى الشمال من جديد في يوم الغد, الخميس على أن أعود ليلة السبت.

كان لا بد من العودة إلى أروى وحل المشاكل العظمى معها.. وقد كنت مداوما على الاتصال بالمزرعة غير أنها تهربت من مكالماتي ولم يصف لي عمي إلياس عنها حالا مطمئنة.

وصلت الخادمة إلى منزلنا هذا الصباح وسأكون مطمئنا للسفر وتركها للعناية برغد, مع أخي.

الانسجام التام يسود علاقتهما والمسافة بينهما تصغر… وأجد نفسي مضطرا لتقبل الوضع إذ لا خيار أفضل عندي…

“أخيرا انتهينا”.

قلت وأنا أغلق آخر الملفات خاتما عمل هذا اليوم, والذي كان طويلا مرهقا…

ابتسم السيد أسامة وقال:

“أعطاك الله العافية”.

“عفاك الله, شكرا على جهودك”.

شد السيد أسامة ابتسامته وقال:

“لا شكر على واجب”.

ثم قال:

“بهذا نكون قد انتهينا من هذا المشروع على خير ولله الحمد. هل بقي شيء؟”

فأجبت:

“لا. ولا أريد أن نبدأ عملا جديدا قبل أسبوعين على الأقل. أريد أن أسترخي قليلا”.

فقال:

“أراحك الله. إذن.. ليس لديك عمل شاغر هذا المساء”.

قلت:

“سأنعم بنوم طويل وهانيء يريحني قبل السفر”.

فقد كنت خلال الأسبوع الماضي أعمل ليلا ونهارا… وأسهر حتى ساعة متأخرة على حاسوبي وبين وثائقي. كان أسبوعا حافلا جدا.

قال السيد أسامة:

“هل يناسبك أن أزورك الليلة؟”

فنظرت إليه.. وابتسمت وقلت:

“مرحبا بك في كل وقت.. تشرفنا أنّى حللت”.

فقال:

“الشرف لنا يا سيد وليد. شكرا لك. إذن سنزورك أنا وأخي”.

قلت:

“على الرحب والسعة”.

وعندما عدت إلى المنزل أخبرت شقيقي عن الضيوف وطلبت منه العودة باكرا ليستضيفهم معي.

وفي العصر اصطحبت رغد إلى الطبيب الذي كان يشرف على علاجها قبل سفرها إلى الشمال.. فأعطانا موعدا لنزع الجبيرة بعد نحو أسبوع.

وفي المساء حضر السيد أسامة مع السيد يونس, يرافقهما الأستاذ عارف,ابن أسامة الأكبر, والذي تعرفت إليه في المعرض الفني يوم أمس.

قضينا مع الضيوف وقتا طيبا تجاذبنا فيه الأحاديث الممتعة وتبادلنا التعارف أكثر وأكثر.. وقد سر الأستاذ عارف كثيرا عندما اكتشف معرفته المسبقة بسامر ولم يكن قد ميزه مباشرة لأن أخي قد أجر عملية تجميل في عينه اليمنى, والتي كانت مشوهة منذ الطفولة.

وجيء بذكر المعرض الفني الذي انتهى يوم أمس وعلق سامر بأنه سمع لأن لوحات الأستاذ عارف كانت مذهلة. واتخذ الحديث مجراه حول المعرض ومهارة الرسام عارف وكيف يعلم طلبته في المدرسة وكيف هي علاقته بهم وبزملائه المدرسين والفنانين وبأصدقائه ومعارفه وما إلى ذلك..

حتى خشيت أن يكون الأستاذ مصابا بداء الغرور أو أن أباه وعمه مولعان به لأقصى حد!

دار الحديث عن عارف وك

أنه نجم السهرة! لم أجد تفسيرا لهذا الاستعراض الغريب إلى أن فوجئت بالسيد أسامة يقول:

“سيكون من دواعي سرورنا وتشرفنا أن نناسبكم”.

دقت نواقيس الخطر في رأسي فجأة… حملقت في السيد أسامة بذهول… ثم التفت إلى شقيقي فرأيته لا يقل ذهولا عني… ارتبكت ولم أعرف إلى أين أرسل نظراتي… وإذا بي أسمع السيد يونس يقول:

“يشرفنا أن نطلب يد كريمتكم لابننا الغالي عارف… عسى الله أن يوحد النصيب ويجعل البركة فيه”.

صعقت… ذهلت… شللت فجأة… غاب دماغي عن الوعي… وغشيت عيني سحابة سوداء داكنة حجبت عني رؤية أي شيء…

مرت لحظة وأنا في حالة الذهول الشديد… لا أشعر بما يدور حولي… وسمعت صوت السيد أسامة بعدها يقول:

“يبدو أن الموضوع فاجأك!”

فاجأني فقط؟؟

أتريد أن تفقدني صوابي؟؟

كيف تجرؤ!! تخطب فتاتي مني؟؟ هل أنت مجنون؟؟ هل كلكم مجانين؟؟ ألا ترون؟؟ ألا تسمعون هؤلاء؟؟

شددت على يدي وتمالكت أعصابي لئلا أنكب على الضيوف صفعا… عضضت على أسناني وجررت بضع كلمات من لساني أخرجتها عنوة:

“أأ… فاجأتني جدا…”

ثم سألت, في محاولة غبية لتفسير الموضوع على غير ما هو واضح:

“مــــ… من تعني؟؟”

تبادل السيدان أسامة ويونس النظرات ثم أجاب أولهنا:

“كريمتكم.. ابنة عمك.. ليس لديكم غير ابنة عم واحدة على ما أعرف”.

التفت إلى أخي فوجدت الاحمرار يلطخ وجهه… كان صامتا متسمرا في مكانه, كتمثال شمعي يوشك على الذوبان…

ما بك؟؟ ألا تسمع؟؟ ألا تعي؟؟ يريدون خطبة رغد مني!! هل أضحك؟؟ هل أصرخ؟؟

قل شيئا… افعل شيئا…

قال أسامة:

“يبدو أن الفتاة لم تخبركما”.

وأضاف:

“فابنتي قد حدثتها حسب علمي”.

وتابع:

“وكنا نرغب في فتح الموضوع منذ زمن ولكن كريمتكم أصيبت وسافرت لفترة… أم عارف كانت ستزوركم لو كانت حرمكم هنا”.

وتكلم المحامي يونس قائلا:

“أردنا أن نؤجل لحين حضورها بالسلامة لكن”.

ونظر إلى الأستاذ عارف وهو يبتسم متمما:

“عارف ألح علينا الحضور الليلة!”

فعقب عارف في خجل:

“خير البر عاجله”.

كل هذا وأنا جامد في مكاني.. كالجبل…

أحسست بالاختناق… ففتحت ربطة عنقي بعض الشيء وتحسست نحري… كان حار يسبح في العرق… زفرت آخر نفس جبته مع شهقة المفاجأة.. فخرج بخارا ساخنا من فرط اشتعالي..

اهدأ يا وليد.. تمالك نفسك يا وليد.. هؤلاء.. المجانين.. لا يعرفون شيئا.. سايرهم على قدر فهمهم… واحترم كونهم ضيوفك.. اصبر إلى أن يغادروا.. ثم انسف المنزل بمن فيه..

قال السيد أسامة مستدركا ردي:

“نقول على بركة الله”.

أي مبروك يا هذا؟ أمسك لسانك وإلا…

وأمسكت أنا بلساني وقلت:

“على رسلك.. الموضوع مفاجىءو… لم أستوعب بعد”.

فقال المحامي يونس:

“خذوا وقتكم… الشاب كتاب مفتوح واسألوا عنه من تشاءون. وسنكون غاية في السرور إذا ما توافق النصيب وارتبطت العائلتان بهذا النسب المشرف”.

ثم تمتم هو وأخوه وابنه بكلام لم يجد في ذاكرتي متسع لتخزينه فضلا عن سماعه أصلا… وأخيرا شكرونا على حسن الضيافة, واستأذنو منصرفين…

غادر الضيوف.. مخلفين خلفهم صمتا موحشا…

مرت الدقيقة تلو الأخرى.. ونحن.. أنا وشقيقي في حالة تيه وتشتت… كان أحدنا يلقي بنظره على الآخر بين الفنية والفنية.. منتظرا منه أي تعليق, ولا تعليق…

أخيرا سمعنا صوت حركة في المنزل.. تحديدا… كان صوت اصطفاق عكاز رغد بالأرضية الرخامية.. وكان الصوت يقترب منا.. حتى توقف.. عند الباب.

التفتنا إلى الباب مترقبين ظهور وجه رغد… فسمعنا صوتها يقول:

“هل أدخل؟”

ولم يجب أيّنا… ثم سمعناها تنادي باسمينا.. ولا من مجيب, فقد أكلت الصدمة لسانينا…

ربما شكت رغد في وجود أحد في الغرفة فأطلت برأسها بحذر واندهشت حين رأتنا نحن الاثنين جالسين في الداخل, واجمين وكأن على رؤوسنا الطير…

قالت:

“ماذا هناك؟؟”

تبادلنا النظرات أنا وأخي, ثم تجرأ لساني ونطق:

“لا شيء…”

لكن رغد وهي تحملق فينا أحست بأن في الأمر شيئا…

أو ربما كانت تعرف أصلا ماذا هناك, وتتظاهر بالجهل…

ألم يقل أسامة أن ابنته أخبرتها؟؟

قلت:

“تفضلي رغد”.

فسارت بتردد حتى جلست على أحد المقاعد.. ونقلت بصرها بيننا ثم سألت:

“هل حصل شيء؟؟ لا تبدوان طبيعيين؟!”

وهل تتوقعين مني أن أبدو طبيعيا.. وقد غادر المنزل خاطب لك قبل قليل؟؟ لماذا يارغد؟؟ لماذا تفعلين هذا بي؟؟ لماذا أنت مصرة على الخيانة؟؟ يئست من حسام ففتشت عن غيره؟؟ إنني سأقتله قبل أن يتمكن أي رجل من الوصول إليك… سأقتلهم جميعا…

عادت رغد تسأل:

“ماذا؟؟”

فنطقت أخيرا وعيناي ملؤها الغضب:

“رغد.. هل تعرفين من الضيوف الذين زارونا الليلة؟؟”

وقبل أن تجيب نطق أخي رادعا:

“ليس وقته وليد”.

تجاهلت كلام أخي, أما رغد فقد ألقت عليه نظرة حائرة ثم عادت إلي وقالت:

“كلا… ما أدراني؟؟”

فقلت وأنا أعض على لساني:

“إنه السيد أسامة المنذر… والد صديقتك”.

وتفحصت عينيها لأرصد تعبير يظهر منهما دالا على أي شيء… ولم أجد غير الحيرة والتساؤل…

قلت بذات الحدة والشرر المتطاير من عيني:

“أتعرفين من جاء برفقته؟؟”

فهتف أخي بانفعال:

“ليس وقته يا وليد دعنا نناقش الأمر فيما بيننا أولا”.

فالتفتنا إلى شقيقي.. هي تعلوها الحيرة وأنا يجتاحني الغضب…

سامر نظر إلى رغد وقال:

“رغد عودي إلى غرفتك رجاء”.

تأملته رغد بقلق ثم نظرت إلي وعلائم التعجب تحيط برأسها من كل جانب…

سألت:

“ماذا هناك؟؟”

فتولى أخي الإجابة قائلا:

“لا شيء يا رغد. من فضلك اذهبي إلى غرفتك الآن”.

وأنا صامت لا أعلق… فتفاقم القاق والحيرة على وجهها ووجهت إلي السؤال:

“ما الخطب وليد؟؟”

فابتلعت غيضي وحبسته في جوفي وقلت محاولا أن يظهر صوتي لطيفا قدر الإمكان:

“عودي إلى غرفتك”.

وأرادت أن تجادلني ولكنها رأت الإصرار في عيني والشرر المتطاير منهما.. فتراجعت… وقامت وغادرت الغرفة.

بعدد ذهابها قام سامر وأغلق الباب ليضمن عدم تسرب صوتينا إليها ثم قال:

“والآن… ما موقفك؟”

رفعت رأسي إلى أخي وقلت:

“أي موقف بعد؟”

فقال:

“أعني فيم تفكر؟”

فأطلقت زفرة ضيق من صدري ومررت أصابعي بين خصلات شعري مشتتا… ثم أجبت:

“الأمر..خلف حدود التفكير أصلا… إنما أنا متفاجىء..لم يذكر لي السيد أسامة شيئا.. ولا حتى بالتلميح أو الإشارة.. أنهم يفكرون بهذا..مع أن.. خالتي متوفاة مؤخرا..”

قال أخي:

“ورغد؟؟”

نظرت إليه نظرة مطولة.. شاعرا بأن في صدري خنجرا يغرس وينزع ويغرس مرارا وتكرار… من رغد…

سأل:

“أتظنها تعرف؟ كما قال أسامة؟؟”

زممت شفتي غيظا ثم قلت وأنا أضغط على أسناني أخرج الحروف من بينها:

“لا أستبعد.. وارد جدا…”

قال أخي:

“لا… لا أظن”.

فرميته بنظرة اعتراض فقال:

“رغد لن تفكر في هذا”.

فقلت وأنا أحاول السيطرة على نفسي قدر الإمكان:

“بل تفكر.. والله الأعلم بما يدور في رأسها وما الذي تخطط له.. إنه ليس العرض الأول…”

وانتبهت إلى أنني تهورت في الافصاح عما في نفسي.. فسألني أخي:

“ماذا تعني.. بأنه ليس الرعض الأول؟؟”

وكان الهلع والتعجب يغمران وجهه.. فقلت منسحبا:

“لا يهم. الفتاة ليست للزواج على أية حال. والموضوع مستبعدا تماما إلى أن تنهي دراستها الجامعية”.

وصمتنا برهة ثم سأل أخي وشيء من التردد يلحظ على نبرة صوته:

“وبعد ذلك؟”

بعد لك؟؟ بعد ذلك ماذا؟؟ لم أجد جوابا لكن نظرات أخي ظلت تطاردني فاضطررت لقول:

“لن نفكر الآن فيما بعد ذلك. نترك الموضوع برمته إلى أوانه. الآن.. هي ستدرس فقط وفقط”.

لم يبدو أن شقيقي اقتنع بالتوقف هنا, كان واضحا في عينيه المزيد من الكلام…

وإذا به يقول:

“وستنتهي الدراسة ذات يوم.. وربما يقبل عريس الغفلة هذا بالانتظار أو ربما… ربما يزورك عرسان آخرون… هكذا هي الطبيعة…”

هببت واقفا من تأثير الكلمة علي… أي عرسان وأي آخرين؟؟ هذا ما كان ينقصني…

تابع أخي:

“أجل.. فهي فتاة رائعة… ابنة عائلة راقية وعالية الأخلاق وطيبة السمعة.. ولها مواصفات مرغوبة ولن تخطئها العين الباحثة عن عروس مثالية”.

فرددت بعصبية:

“ماا تعني؟؟”

فوقف أخي وقال:

“أعني أنه سيأتي اليوم المناسب والظروف المناسبة لتوافق على زواج رغد.. مهما طال الأمد فهذه سنة الحياة”.

رددت بانفعال:

“قلت إن الموضوع سابق جدا لأوانه.. لماذا أشغل دماغي في التفكير به أو الحديث عنه؟؟ لم لا ننهي الحوار العقيم هذا؟؟”

قال أخي:

“أريد أن أعرف فقط… ما هو موقفك من زواج رغد مستقبلا؟”

قلت بضيق:

“ولم أنت مهتم هكذا؟”

فأجاب أخي وقد تبدلت تعبيرات وجهه إلى المرارة.. وفضحت خوالجه قبل أن يفصح عنها لسانه:

“لأنني أنا.. أولى بها من أي شخص آخر.. وإن كنت ستزوّجها ذات يوم.. فيجب أن تعيدها إلي”.

واجتاحت قلبي زوبعة مجنونة.. لفت به مئة مره حول المنزل في ثواني.. بعثرت دماءه على أسواره وجدرانه.. وعادت إلي.. خالية اليدين…

كان أخي يحدق بي.. ينتظر ردة فعلي والتي أكاد أعبر عنها بقبضتي…

كيف تجرؤ يا سامر..؟؟ ألم تكف الضربة المدمرة التي تلقيتها قبل قليل؟؟ أنت أيضا تتحدث عن أخها مني؟؟

هل خلت الدنيا من النساء.. إلا رغد؟؟ لماذا يريد الجميع سرقتها مني؟؟ هل يستكثرون علي أن أحظى في هه الدنيا بها؟؟ أنا لا أريد من الدنيا شيئا غيرها… إنها خلقت لي أنا… كيف يتجرأون على التفكير في شيء يخصني أنا؟؟ رغد هي فتاتي أنا.. هي جزء مني أنا.. حبيبتي أنا.. حلمي وواقعي أنا.. وستكون وتظل لي أنا… أتسمعون؟؟ لي أنا.. أنا وأنا فقط…

كان سامر لا يزال ينتظر ردي.. وإن هو تأمل التغيرات التي اجتاحت قسمات وجهي لأدركَ مدى خطورة جريمته..لكنني أوليته ظهري وخطوت نحو الباب, محاولا الابتعاد قبل أن أفقد السيطرة على يدي..

سامر ناداني:

“وليد إلى أين؟”

فقلت دون أن استدير إليه:

“النقاش منته. ولا تعد لفتح الموضوع ثانية أبدا”.

لكن أخي لم يستمع لكلامي بل قال متابعا:

“أريدك أن تجيبني فقط على هذا السؤال.. هل ستعيدها إلي؟”

ثار بركاني لأقصى حد.. ولا بد أنكم ترون الدخان الأسود يتطاير من جسدي…

رددت وأنا لا أزال موليا إيّاه ظهري:

“سامر قلت لك وأكرر وللمرة الأخيرة… لا تتحدث في الموضوع ثانية, والتزم الصمت أسلم لك”.

فقال سامر بعصبية:

“لن يدوم صمتي طويلا.. لقد تعبت من ها يا وليد.. إما أن تعطيني أملا في أن تعيدها إلي كما فرقتها عني.. وإلا فأنني لن أستمر في العيش معكما وتمثيل دور البليد.. أنت لا تشعر بمقدار ما أعانيه”.

هنا… انطلقت شياطين رأسي أخيرا وباندفاع جنوني… لا أستطيع السيطرة على نفسي… لا أستطيع… التفت إلى أخي ورشقته بسهام حادة.. ثم سرت نحوه.. وانقضت يداي على ذراعه بعنف… وصرخت في وجهه:

“حذرتك من الاستمرار يا سامر… لم أعد السيطرة على غضبي… أنت المسؤول”.

حاول أخي إبعاد يدي عنه وهو يقول:

“أبعد يديك يا وليد… ما الذي يغضبك الآن..؟ كأنك لا تعرف أنني أحبها وأنها كانت عروسي قبل أن تظهر أنت وتفسد كل شيء… أنا لم أتوقف عن التفكير بها”.

صرخت وأنا أجر أخي ثم أدفع به نحو الباب مستسلما لثورتي:

“سأكسر جمجمتك… وأخرجها من رأسك عنوة… وأريحك… أيها المسكين”.

وبدأ العراك بالأيدي…

كلانا استسلم للغضب.. وسلم قبضته لشياطين الجنون..

تبادلنا اللكمات والركلات.. الضرب واللطم والصفع.. وحتى الدوس وشد الشعر والخنق.. كانت ساعة مجنونة.. مجنونة جدا.. أجن من أن نملك السيطرة عليها…

مشاعرنا كانت هائجة كأمواج البحر الثائرة في ليلة إعصار عنيف مدمر…

أنا سأحطم جماجم كل رجل… يفكر في رغد…

كنت أمسك بذراع أخي وألويها بشدة بينما ألصق رأسه بالجدار بقوة وأصرخ:

“إن فكرت بها ثانية فسأسوى رأسك بهذا الجدار.. هل فهمت؟؟”

ثم شددته ودفعت به نحو المقعد.. وأخذنا نلهث من التعب.. ونتأوه من الألم..

بعد قليل… سمعت نشيج أخي.. ورأيت دمعا يسيل من عينيه فشعرت بها دماء تقطر من قلبي…

ذهبت إليه وجثوت إلى جانبه وأمسكت برأسه وقلت بعطف:

“أخي.. أنا لا أريد أن أفعل بك هذا.. ليت ذراعي تقطع قبل أن أؤذيك.. سامحني..لكن.. لماذا استفززتني؟؟”

وتأملت وجهه المتألم… وقلت:

“يجب أن تنساها.. إنها لا تريك ياسامر… لو كانت ترغب بك بالفعل لما أوقفت زواجكما في آخر الأيام.. لما عرضتك لكل ما حصل… رغد لا تحبك.. إنها لا تحبك يا أخي فلا تتعب قلبك”.

وكان رد أخي أن لكم وجهي لكمة قوية أوقعتني أرضا.. وأدمت أنفي… ثم نهض ومسح وجهه براحتيه وقال:

“أنت السبب يا وليد.. ليتك لم تخرج من السجن إلا بعد عشرين سنة من الآن.. ليتك تعود إليه من جديد وتخلصنا من وجودك.. أفسدت حياتي.. حطمت حلمي.. ضيعت مستقبلي يا وليد.. انعم بالحياة من بعدي إذن…”

واستدار وسار نحو الباب وفتحه وصفعه بالجدار بقوة… وغادر المنزل…

********************

غرفتي الحالية بعيده بعض الشيء عن مجلس الضيوف الذي استقبل فيه ابنا عمي ضيوفهما. ولكني سمعت صوت جلبة فخرجت من غرفتي ووقفت في الممر.. فتناهى إلى سمعي صوت شجار بين ابني عمي وربما عراك أيضا…

داهمني القلق وسرت في اتجاه مجلس الضيوف ولما سمعت صوت ارتطام شيء بالباب.. ذعرت.. وتراجعت للوراء.. ثم عدت إلى غرفتي خائفة…

وقفت عند باب الغرفة مضطربة تنقصني الشجاعة للذهاب إلى مجلس الضيوف واستكشاف ما الأمر.. إلى أن سمعت صوت ارتطام باب بجدار.. كان صوتا قويا انتقلت ذبذباته إلى باب غرفتي فاهتز ذعرا… وزادني فوق قلقي قلقا…

أصغيت جيدا فسمعت وقع خطوات قوية وسريعة تعلو ثم تنخفض مبتعدة.. ثم صوت الباب الرئيسي ينفتح ثم ينغلق… ثم يخيم الهدوء في المكان..

أحدهما قد خرج.. ومن وقع أقدامه على الأرض.. يظهر أنه كان غاضبا..

وليد!؟؟

خرجت من غرفتي هلعة.. وسرت بعكازي إلى أن بلغت مجلس الضيوف.. كان الباب مفتوحا.. أطللت برأسي من خلال فتحته فوقعت عيناي على وليد.. يجلس على الأرض بجانب المقعد.. ويسند رأسه إليه…

هوى قلبي إلى قدمي وخارت قوتي فجأة لدى رؤيته على هذا الوضع فاستندت إلى الجدار وشهقت ثم قلت مفزوعة:

“وليد ما بك؟”

انتفض وليد فجأة وأدار وجهه إلي بسرعة.. فإذا بي أرى سيلا من الدماء يتدفق من أنفه..

حملقت عيناي فيه أوسعهما.. وانحبس نفسي في صدري وكاد العكاز أن ينزلق مني ويوقني أرضا..

وليد وقف وتلفت يمينا ويسارا حتى لمح علبة المناديل فسار إليها وتناول بعضها وجعل يمسح الدماء…

انطلق نفسي السجين من صدري مصدرا صوتا يشبه الأنين.. تلاه صوت حنجرتي تحاول القول:

“ماذا حصل؟”

وكان واضحا أنه تعارك مع سامر…

كانت ربطة عنقه مفتوحة كليا.. وملوثة ببقع الدماء الهاطلة من أنفه.. شعره مبعثر وهندامه غير مرتب.. ووجهه شديد الاحمرار والتعرق..

لم يجب وليد على سؤالي, بل تهالك على المقعد وهو يرفع برأسه للأعلى ويضغط بالمناديل على أنفه ليوقف نزف الدماء… فخطوت نحو الداخل يسوقني الفزع والقلق..

وحين صرت بمحاذاته خاطبته:

“وليد.. ماذا حدث؟؟ أخبرني أرجوك”.

أبعد وليد المناديل الغرقة بالدم عن وجهه ووجه بصره إلي.. وحدق بي طويلا.. ولم يتكلم..

كانت عيناه تتكلمان.. كأنهما تتهماني.. أو تعاتباني.. أو تتشاجران معي..

ولكن ما الذي فعلته أنا…؟؟

“وليد..”

ناديته مجددا فما كان منه إلا أن قال:

“عودي إلى غرفتك”.

ماذا؟؟ أعود إلى غرفتي وأنا أراك بهذا الشكل؟؟

“لكن… أخبرني أرجوك ماذا حدث؟”

فكرر وليد:

“عودي يا رغد”.

قلت:

“لا أستطيع.. طمئني أولا ما الذي يحدث؟؟ لماذا تعاركتما وإلى أين ذهب سامر؟؟”

فأشاح وليد بوجهه عني.. لم أستطع إلا الانصياع لقلقي.. كيف أنصرف وأنا أراك هكذا وليد لا أقدر…

جلست على المقعد بجواره.. تركت العكاز جانبا ومددت يدي وأمسكت بذراعه بحنان…

التفت وليد إلي.. نظر إلي نظرة قصيرة ثم أغمض عينيه وأسند رأسه إلى مسند المقعد وتنفس بعمق…

بقيت ممسكة بذراعه أكاد أحضنها.. وأكاد أفقد صوابي وأمد يدي وأمسح على رأسه وأطبطب على كتفيه.. رغم جهلي بحقيقة ما يحصل أشعر بأن وليد قلبي يتألم.. وأنا لا أتحمل هذا…

“وليد…رد علي”.

توسلت إليه.. ففتح عينيه ونظر إلي ثم قال:

“أرجوك يا رغد.. اذهبي إلى غرفتك الآن ولازميها.. لا تتعبيني أكثر”.

أنا أتعبك؟؟ أنا من يتعب لتعبك.. لكن إذا وجودي الآن يتعبك فأنا ذاهبة..

قلت:

“حاضر”.

وسحبت يدي من حول ذراعه وأمسكت بعكازي, ثم انصرفت دون أن أنطق بحرف واحد…

في صباح اليوم التالي استيقضت متأخرة…

ذهبت إلى المطبخ كالعادة لأعد شاي.

كانت الخادمة منهمكة في أعمل التنظيف والساعة التاسعة والنصف صباحا. وكان المنزل خاليا من أي صوت أو حركة عدا ما تصدره هي. تركت الإبريق على الموقد وخرجت أتفقد ابني عمي. اليوم خميس وهو عطلة لدى المصنع… وقبيل الظهيرة سيسافر وليد إلى المزرعة من جديد… وقد يعود بالشقراء… ذهبت وتفقدت أولا غرفة المعيشة, المجاورة لغرفة نومي. طرقت الباب ولم يرد أحد.. ففتحتها ببطء وأرسلت نظراتي للداخل ولم أجد أحدا. كان سامر ينام هنا على الكنبة الكبيرة في الليالي الماضية وقد طلبت منه أن يبقى كذلك إلى أن تزال الجبيرة عني الأسبوع المقبل وأعود إلى غرفتي العلوية, حتى مع حضور الخادمة وبياتها على مقربة من غرفتي الحالية, لم أكن لأشعر بالطمئنان في هذا المنزل الكبير الموحش..

سرت بعد ذلك في أرجاء المنزل.. هنا وهناك, ولم أعثر لأي من ابني عمي على أثر.

عدت إلى المطبخ وسألت الخادمة عما إذا كانت قد رأت أيا منهما هذا الصباح فأجابت بالنفي.

ساورني بعض القلق.. فطلبت منها أن تصعد للطابق العلوي وتتفقدهما. وعادت بعد قليل يتبعها وليد.

كان وجه وليد ممتقعا وعلى خده كدمةمبهمة اللون.. كان يهبط الدرجات ببطء ونظره مركز على موضع قدميه.. كنت أقف أسفل الدرج في انتظار ظهور أي من وليد وسامر..

ابتعدت الخادمة عائدة إلى المطبخ وبقيت أراقب وليد وهو يهبط الدرج درحة درجة..

إلى أن توقف أخيرا بجانبي.

بادرت بإلقاء التحية:

“صباح الخير”.

فرد وهو لا يرفع بصره إلي:

“صباح الخير”.

ثم سار وتخطاني وتوجه نحو المطبخ.

لحقت به فوجدته يفتح الثلاجة ويستخرج علبة حليب بارد ويهم بفتحها.

قلت:

“ألا ترغب في بعض الشاي؟؟”

فقال وهو يفتح الععلبة ويسكب شيئا منها في أحد الكؤوس:

“كلا شكرا… الجو حار”.

وجلس على أحد المقاعد الموزعة حول الطاولة وأخذ يشرب الحليب البارد دفعة واحدة حتى أتى على آخره…

يحب ابن عمي هذا الحليب.. ألا تلاحظون ذلك؟؟

حضرت كوب الشاي الخاص بي ووضعته على الطاولة وجلست على المقعد المقابل لمقعده..

بدأت بطرف الحديث:

“هل أعد لك فطورا؟”

أجاب:

“لا, شكرا”.

قلت:

“ولو وجبة بسيطة؟”

فأكد:

“شكرا يا رغد. لا أرغب بشيء الآن”.

احتسيت من قدح الشاي ثم قلت:

“هل سامر في الأعلى؟”

فنظر إلي باهتمام أخيرا.. ثم أجاب:

“لا”.

فتعجبت وسألت:

“أليس في المنزل؟؟”

فأجاب:

“كلا..”

فازداد قلقي.. أيمكن أنه لم يبت هنا البارحة؟؟

قلت:

“أين هو؟”

فرد:

“خرج باكرا.. لم يحدد وجهته”.

وظهر الانزعاج على وجه وليد.. لم أقو على إطالة المقدمات.. أنا متلهفة لأعرف ما حصل البارحة.. قلت مباشرة:

“لماذا تشاجرتما؟”

فرماني بنظرة ثاقبة.. ثم زاح بصره عني وتجاهل سؤالي. قلت:

“أرجوك أخبرني.. أنا أعيش معكما في هذا المنزل وأشارككما في كل شيء”.

فأرجع بصره إلي.. ثم قال:

“نعم.. في كل شيء”.

ولا أعرف أن قالها جادا أم ساخرا.. لأن تعبيرات وجهه غامضة جدا.. استأت من تهربه وقلت:

“أرجوك وليد.. أخبرني وأرحني.. أنا لم أنم جيدا البارحة من شدة القلق ولم أجرؤ على مغادرة غرفتي حتى لا تغضب مني.. أرجوك قل لي ماذا هناك؟”

ظل وليد ينظر إلي بتركيز.. ثم سأل:

“أحقا لا تعرفين؟؟ ألم تخبرك صديقتك بشيء؟؟”

أصابتني الدهشة.. صديقتي؟؟ تعني مرح؟؟ ما دخل مرح بالأمر؟؟

سألته فيما الفضول يكاد يلتهمني:

“تخبرني بماذا؟؟ مرح؟؟”

فألقى وليد نظرة سريعة على الخادمة ثم عاد ينظر إلي. خاطبت الخادمة وطلبت منها الذهاب لتنظيف غرفتي… ولما انصرفت سألت وليد:

“ما علاقة صديقتي بما حصل البارحة.. وليد أرجوك أوضح لي فأنا لا أفهم شيئا”.

وليد مد يده وأمسك بيدي وضغط عليها بشدة وتحولت تعبيرات وجهه إلى الجد المفاجىء والممزوج بالتهديد وقال:

“اسمعي يا رغد.. إياك أن تفتحي الموضوع أمام سامر.. لا تسأليه عن أي شيء ولا تأتي بذكر شيء عن ليلة أمس لا تصريحا ولا تلميحا أمامه.. هل تفهمين؟؟”

القلق بلغ ذروته عندي.. يبدو أن الموضوع أخطر مما كنت أعتقد.. قلت:

“لا.. لم أفهم شيئا”.

فأغضب ردي وليد.. فشد الضغط على يدي واحتد صوته أكثر وهو يكرر:

“بل تفهمين.. اسمعيني جيدا.. لا أريدك ولا بحال من الأحوال أن تشيري لليلة البارحة أمامه. تصرفي بشكل عادي وكأن البارحة لم تكن أساسا”.

سألت:

“لماذا”.

فهتف بعصبية:

“نفذي ما أقوله لك فقط.. فأنا سأسافر اليوم ولن أكون موجودا للتدخل وتحويل المواقف. أريد أن يمر اليومان بسلام إلى أن أعود وأجد مخرجا للمأزق الجديد الذي أقحمتنا فيه”.

هتفت:

“أنا..!!”

ووجهي يملؤه التعجب وعدم الفهم.. فأبعد وليد يده عني.. ثم نهض واقفا وأراد مغادرة المطبخ. قلت محتجة:

“وليد انتظر أنت لم توضح لي شيئا”.

فأشار بيده لي أن أصمت.. ثم قال:

“لاحقا يا رغد.. ليس وقته الآن.. افعلي فقط ما طلبته منك”.

وانصرف.

لم أطق صبرا مع كل هذا الغموض.. توجهت إلى غرفتي وطلبت من الخادمة المغادرة, وتناولت هاتفي المحمول واتصلت بصديقتي مرح..

لكم أن تتصوروا الدهشة التي اجتاحتني عندما علمت من مرح..أن.. أن… إه.. أن والدها وعمها.. تقدما بطلب يدي للزواج من… من شقيقها الرسام.. الأستاذ عارف.. الذي حضرت معه معرضه الفني أمس الأول.. ورآني صدفة هناك!!!!

“لا يارغد.. كنا سنتقدم لخطبتك حتى قبل أن يراك فأمي وأختاي أعجبن بك عندما زرناكم بعد خروجك من المستشفى.. وأيدتا ترشيحي في الحال”.

وعادت بي الذكرى بسرعة إلى تلك الليلة.. حيث دعونا آل منذر للعشاء عندنا وحضرت أم مرح وأختاها.. أذكر أنني ليلتها كنت منزعجة لأنهن سلطن اهتمامن على الشقراء التي سرقت الأضواء مني.. ولم أكن لألحظ أن عيونا خفية كانت تراقبني أنا….!

انتبهت من لحظة الذكرى على صوت مرح تقول:

“وكنا نريد زيارتكم لو لا أنكم سافرتم… أما عارف فهو يثق في اختيارنا.. وعندما قلت أن ستحضرين المعرض خطرت ببالي فكرة أن أريكما بعضكما البعض وعارف ألح بأن يزوركم البارحة.. وأخي شخص مهذب وراغب في الزواج بكل جدية”.

وكانت نبرتها تمزج بين الضيق والعتب… فقلت مهدئة إياها:

“ليس قصدي عكس ذلك لا سمح الله.. إنما.. آه.. لماذا لم تخبريني عن هذا سابقا؟”

فأجابت بذات النبرة.. وهي نبرة لم أعتد سماعها من مرح التي لطالما غلب المزح والمرح على أسلوبها:

“لمحت لك تلميحا خفيفا… لم أستطع التحدث معك مباشرة.. أنت خجولة جدا وخشيت أن أحرجك أو أن تغيري رأيك في حضور المعرض.. ولم تسنح الفرصة قبل ذلك بسبب سفرك”.

قلت:

“لكن يا مرح”.

فقاطعتني مرح قائلة:

“لكن ماذا يا رغد؟؟ أنتم تشعروننا بأننا ارتكبنا خطيئة بعرض الزواج هذا!”

فاجأني رد مرح فقلت:

“لم تقولين هذا؟”

فقالت:

“أنت تحققين معي الآن وكأنني متهمة.. وأبوك وأخوه لسعا أخي بنظراتهما البارحة

ولم يتفوها بكلمة واحدة ولو من باب المجاملة تشير إلى أنهما يرحبان بالعرض أو يقدران أصحابه.. لقد أخبرني عارف بأنهم غادروا ولديهم الانطباع بأن العرض مرفوض قبل دراسته.. وكأن عائلتكم لا تتشرف بالرتباط بعائلتنا”.

قلت بسرعة نافية:

“ما الذي تقولينه يا مرح الأمر ليس كلك إطلاقا”.

فسألت:

“إذن ماذا؟؟”

فقلت:

“إنه أكبر بكثير مما تظنين…”

بعد حديثي معها جلست أفكر طويلا… لم أكن أتوقع أن يكون الأمر هكذا… ما الذي سأفعله وكيف سأتصرف؟؟

بعد حوالي الأربعين دقيقة خرجت من غرفتي قاصدة الذهاب إلى غرفة المعيشة ورأيت وليد هناك يجلس على طرف أحد المقاعد ويبدو عليه الاضطراب ولما رآني سأل:

“ألم يعد سامر؟”

فأجبت:

“لا أعرف. لا أظن فأنا لم أسمع صوت الباب”.

وهنا سمعت صوت الباب الخارجي, فوقف وليد ثم قال بصوت هامس:

“لا تنسي ما قلته لك”.

فأومأت برأسي.. وخطوت إلى الداخل.

وافانا سامر مباشرة ولم يلق التحية بل ألقى علينا نظرة سريعة ثم هم بالانصراف.

ناداه وليد وقال:

“تأخرت يا سامر.. ألا تعلم أن لدي رحلة هذه الظهيرة؟؟ بالكاد يتسع الوقت للوصول للمطار”.

فالتفت سامر إليه ثم ألقى نظرة على ساعة يده ثم قال:

“لا يزال الوقت كافيا”.

ثم استدار إلى الباب ثم توقف واستدار نحو وليد وقال:

“على فكرة وليد.. لقد حجزت مقعدا على نفس الطائرة”.

واستدار وولى منصرفا نحو الدرج!

لم يعط وليد الذهول فرصة لتملكه, بل أسرع عقب أخيه وهو يناديه إلى أن أدركه عند أسفل السلم.. ولحقت بهما في اندهاش شديد..

قال وليد:

“ماا تقصد؟؟”

فأجاب سامر وهو يرفع قدمه إلى الدرجة الأولى:

“أقصد أنني سأسافر أيضا إلى الشمال الآن”.

وتابع خطواته فهتف وليد:

“سامر قف هنا وكلمني…”

فتوقف سامر بعد بضع درجات وأرسل نظراته إلى وليد… وتسللت إحداها إلي فقرصتني…

قال وليد:

“ماذا تعني بتصرفك هذا؟؟”

أجاب سامر وصوته يعلو ويحتد:

“لا أعني شيئا. لدي أشياء ضرورية لأحضرها وأمور مهمة لأنجزها في المدينة التجارية.. تعرف أن سفري كان مفاجئا وعاجلا جدا”.

فقال وليد بصبر نافذ:

“ولكنني سأسافر الآن.. فهل تريد أن نسافر كلانا ونترك المنزل ومن فيه هكذا؟؟”

وأصابتني الفكرة بالرعب… فقال سامر:

“عد ليلا فهناك رحلة مناسبة هذا المساء”.

ثم تابع صعود الدرجات حتى اختفى عن أنظارنا.. وقف وليد برهة كمن يحاول استيعاب ما سمع, ثم صعد الدرجات ليلحق بسامر..

استوقفته وقلت مرعوبة من الفكرة:

“أنا لا أستطيع البقاء وحدي”.

فالتفت إلي وقال:

“وهل ترينني بهذا الجنون لأفعل هذا؟؟”

وواصل صعوده حتى اختفى هو الآخر عن ناظري…

لحقت به إلى غرفته.. نفس الغرفة التي كان يقيم فيها في الماضي والتي نظفتها الخادمة يوم أمس.. ووضع فيها حقائبه وبات على سريره القديم فيها البارحة.

كان يستخرج شيئا من إحدى حقائبه.. سألته:

“ألست تمزح يا سامر؟؟”

فالتفت إلي وقال:

“وهل تراني بمزاج جيد ومناسب للمزاح؟ ها هي التذكرة على المنضدة أمامك”.

ولمحت التذكرة بالفعل على المنضدة…

قلت:

“سامر لماذا تفعل ذلك؟؟”

أجاب:

“قلت لك أن لدي حاجيات ضرورية سأحضرها ومهام سأنجزها”.

قلت:

“وهذه لم تظهر إلا الآن؟؟ أجل سفرك للأسبوع المقبل أو على الأقل لحين عودتي”

قال:

“مستحيل سفري ضروري وملح الآن”.

وأخذ بضع أشياء معينة في حقيبة يد صغيرة ثم يأتي باتجاه الباب.. قاصدا المغادرة حاصرت عينيه بنظراتي.. كانتا كوردتين ذبلتا فجأة بعد انقطاع المطر.. شعرت بألم فظيع في صدري وفي معدتي.. استوقفته وقلت بصوت حنون:

“تمهل يا سامر.. حسنا.. دعنا نناقش الأمر بعد عودتي من السفر.. أعد حقيبتك إلى مكانها”.

توقف سامر عن الحركة وصمت قليلا ثم قال:

“نناقش ماذا؟”اجترعت المرارة وقلت:

“ما كنا نناقشه البارحة نبين مواقفنا ووجهات نظرنا… وحقائق الأمور”.

قال سامر والحزم جلي على وجهه:

“بالنسبة لي هناك حقيقة واحدة لا جدوى من محاولة اللف والدوران بعيدا عن محورها إما أن تعطيني وعدا بإعادتها إلي, أو سأخرج من حياتكما نهائيا”.

قلت:

“هل أنت مجنون؟”

فتجاهل سامر تعقيبي وسار مغادرا الغرفة. لحقت به وناديته مرارا ولكنه واصل طريقه, عند أعلى الدرج التفت إلي وأشار بسبابته نحوي وقال:

“أنت السبب يا وليد.. تذكر هذا”.

وهبط الدرجات واختفى من المنزل

قرب أسفل العتبات, كانت تقف الفتاة التي تعاركنا بسببها.. سامر خرج مسرعا ولم يلتفت إليها.. استندت إلى السياج وسبحت في بحر من الضياع..

لماذا وقع شقيقي الوحيد.. في حب الفتاة التي هي حبيبتي أنا.. فتاتي أنا..التي لن أتنازل عنها لأجل أي مخلوق.. حتى وإن.. كنت أنت يا سامر..

وبسبب سفره اضطررت لأن ألغي رحلتي وأبقى مع رغد.. فيما النار مشتعلة في المزرعة.. تنتظر عودتي كي أخمدها..

مع بداية أسبوع جديد.. عادت رغد إلى جامعتها كانت لاتزال بالجبيرة والعكاز.. ولكن ذهابها إلى جامعتها كان الحل الأمثل للوضع الحالي المضطرب..

ولأنها لاتزال بحاجة للمساعدة, فقد وجدنا الحل في أن ترافقها صديقتها المقربة ذهابا وعودة في الفترة الراهنة, على أن أتولى بنفسي إيصالهما.

وفي إحدى المرات, وفيما كنت في اجتماع مهم في مكتبي في مبنى إدارة المصنع, وردتني مكالمة من رغد. كانت الساعة الثانية عشر والنصف ظهرا, ورغد لم تكن تتصل إلا للضرورة ولما أجبتها أخبرتني بأنها أنهت محاضراتها لهذا اليوم وتريد العودة إلى المنزل.

لم يكن التوقيت مناسبا فطلبت منها أن تنتظر اتصالي لاحقا.

وبعد نحو أربعين دقيقة, اتصلت بها كي أخبرها بأنني مشغول ولن أوافيها قبل ساعة, ففوجئت بها تخبرنب بأنها وصديقتها الآن في طريق العودة إلى المنزل, في سيارة شقيقها.

هذا الشقيق لم يكن إلا… الأستاذ عارف.

تمالكت نفسي, وأنهيت المكالمة بهدوء ظاهري, وتابعت عملي دون تركيز حقيقي…

وعندما عدت إلى المنزل, حاملا طعام الغداء كالعادة, كانت الساعة تقترب من الرابعة عصرا…

توجهت إلى غرفة رغد, لا أطيق صبرا… ولما اقتربت من الباب سمعت صوت ضحكات.. كانت ضحكات رغد ممزوجة مع ضحكات فتاة أخرى…

ذهبت إلى المطبخ وسألت الخادمة, فأخبرتني أن لدى رغد ضيفة تناولت معها غداء أحضرتاه معهما ظهرا… وهما تجلسان في الغرفة منذ فترة.

انزويت على نفسي في غرفة المعيشة.. بعد ساعة ونصف الساعة, سمعت صوت حركة في الممر… ومعها صوت الفتاتين تودعان بعضهما البعض, ثم صوت الباب الرئيسي يغلق.

هببت واقفا وسرت نحو الباب وأنا أتنحنح لألفت الانتباه… وفي الممر رأيت رغد تسير باتجاه غرفتها فناديت:

“رغد”.

التفت إلي, وسرعان ما لمحت البهجة على وجهها… كان واضح أنها مسرورة..

سألتني:

“أنت هنا؟ متى عدت؟”

سرت نحوها وأنا أجيب:

“قبل ساعة ونصف تقريبا”.

وأضفت:

“آسف. لقد كنت في اجتماع مهم”.

قالت:

“لا بأس”.

ثم استدارت تريد متابعة السير إلى غرفتها.

انتظري! إلى أين تذهبين…؟؟ قلت:

“إذن… عدتما مع… الأستاذ عارف؟”

فالتفتت إلي ولاتزال تعبيرات السرور بادية على وجهها وقالت:

“أجل…فقد أنهينا محاضرات اليوم باكرا ولم نشأ تضييع الوقت في الانتظار… عدنا ودعوت مرح للغداء والمذاكرة معي”.

كتمت ما في نفسي وتركتها تعود إلى غرفتها بسلام.

وعدت إلى غرفة المعيشة.. وكررت الاتصال بشقيقي عدة مرات بلا جدوى.. إنني لم أتمكن من محادثته منذ سافر.

اتصلت بالمزرعة وكالعادة رفضت أروى التحدث معي.. وأعاد العم إلياس تأكيده بأن الوضع حرج وأن علي الحضور فورا…

وككل يوم… دخلت مكتبي وبقيت فيه, وبقيت رغد في غرفتها… في الواقع لم نكن نلتقي إلا على مائدة العشاء التي نتناول طعامنا حولها شبه أخرسين…

شعرت بملل شديد وأنا في المكتب… ولم يفلح حاسوبي في شغل تفكيري… لدي أمور أعمق وأهم لأفكر بها…

غادرت مكتبي طالبا بعض الاسترخاء… وفي الواقع… بحثا عن رغد.كانت في غرفتها…

“هل كنت تدرسين؟”

أجابت وهي تفتح الباب وتشير إلى مجموعة من كراسات الرسم الموضوعة على سريرها:

“كنت أتصفح رسماتي”.

قلت محاولا إذابة بعض الجليد من حولنا:

“ألديك الجديد؟ أيمكنني التفرج؟؟”

ظهر على رغد وجه رغد تعبير لم أفهمه… ثم توهج قليلا…وقالت:

“نعم,بالطبع… تفضل”.

آذنة لي بدخول الغرفة, فقلت مفضلا:

“دعينا نذهب إلى المطبخ… سأعد بعض الشاي”.

وسبقتها إلى المطبخ وبدأت بالتحضير للشاي.وافتني بعد قليل تحمل إحدى كراستها. وضعتها على الطاولة وجلست وهي تقول:

“لا أظنك شاهدت هذه”.

وقد كنت فيما مضى أتفرج على لوحاتها الجديدة من حين لآخر… وكانت صغيرتي تسر بذلك… أقبلت نحوها وجلست على المقعد المجاور لها, وتناولت الكراسة وشرعت في تصفحها…

سمعنا صوت فقعات الماء المغلي… فوقفت رغد قائلة:

“سأعده أنا”.

وأمسكت بعكازها. قلت وأنا انظر إلى العكاز وأتذكر موعد الطبيب:

“غدا نذهب إلى الطبيب وينزع جبيرتك وتستغنين عن هذا أخيرا”.

فابتسمت ابتسامة مشرقة وواصلت طريقها.

كنا جالسين على مقعدين متجاورين, كما لم نفعل منذ زمن… نحتسي الشاي الدافىء… أنا أقلب صفحات الكراسة, وهي تلقي بتعليق على الصفحات من حين لآخر… لا شيء غير ذلك… لا شيء أقرب من ذلك… أخفي ما يدور في رأسي خلف صفحات الكراسة… أخاول أن أتحدث عن شيء خارج حدود الصفحة, ولا أجرؤ…

يا ترى… ما الذي تفكرين به الآن أنت يا رغد؟؟

على الورقة التالية, وجدت ورقة ملاحظات صغيرة, ملصقة على الصفحة المقابلة للرسمة… وكان كتوب عليها وبخط صغير ومرتب كلمات مختصرة فهمت منها أنها تعليق على الرسمة المقابلة..

كانت الرسمة بالفعل خلابة… تفوق ما سبقها روعة… أخذت أتأملها مطولا… ورغم أنني لا أفهم في فن الرسم شيئا.. إلا أنني انبهرت بها تماما…

قلت:

“بالفعل رائعة! ما شاء الله”.

ابتسمت رغد وتودر خداها قليلا ثم قالت:

“هذه الأجمل بين المجموعة… حسب شهادة الخبراء”.

التفت إليها وسألت:

“الخبراء؟”

فقالت وهي تشير إلى ورقة الملاحظات الملصقة على الصفحة المقابلة:

“هل قرأت هذا؟”

قلت:

“نعم. أهي إحدى مدرساتك في الجامعة؟”

ابتسمت رغد وقالت:

“لا! إنه الرسام عارف… فقد اطلع على رسومي في هذه الكراسة وأبدى ملاحظاته”.

كدت أوقع قدح الشاي من يدي وأسكبه على هذه الصفحة بالذات… فوجئت… وتسمرت عيناي على ورقة الملاحظات… وعبثا حاولت إبعادهما عنها…

ماذا تعنين يا رغد؟؟ تعنين أن عارف… عارف هو الذي كتب هذا؟؟ عارف أمسك بكراستك هذه… وتأمل رسماتك؟؟ كيف تجرأت على اقتراف هذا يا رغد؟؟

التفت إليها أخيرا… وبدأ الشرر يتطاير من عيني… لكن عينيها كانتا تحملقان في ورقة الملاحظات… والبهجة مشعة على وجهها…

وضعت كوب الشاي جانبا… وشددت على قبضتي غيظا… ثم سألت:

“و… وكيف شاهد الأستاذ كراستك؟؟”

فأجابت:

“أعطيتها لمرح قبل يومين وأعادتها إلي اليوم”.

ازدرت ريقي وابتلعت حنقي معه وتظاهرت بالتماسك وقلت:

“لكن… لماذا؟؟ أهي فكرتك؟”

أجابت رغد:

“فكرة مرح! إنها كانت تصر علي بأن تعرض لوحاتي على شقيقها الفنان منذ مدة… تقول أنها واثقة من أنها ستعجبه وسيرحب بعرضها في أحد معارضه ذات يوم… وأخذت كراستي كعينة”.

عضضت على شفتي وقلت:

“و… ما رأيك أنت؟؟”

فقالت بسرور واضح:

“إذا رسمت لوحة مميزة فلا أحب إلي من أن تعرض ضمن مجموعة لفنان مبدع! سيكون هذا نجاحا كبيرا لي!”

وكانت عيناها تبرقان سرورا…

قلت غير قادر على تحمل المزيد:

“يبدو… يبدو… أنك… مبهورة بالفنان عارف المنذر… ألست كذلك؟؟”

وانتظرت إجابتها وأعصابي تحترق من الغيظ… رغد رفعت بصرها من الكراسة ونظرت إلي… ثم طأطأت رأسها وتوهجت وجنتاها واضطربت تعبيراتها…

ماذا تعنين بربك يا رغد؟؟ كيف تجرئين؟؟

تبا! أي مصيبة ألقت بك علينا أيها العارف؟؟ ومن أين خرجت؟؟

أنا لا أسمح لك بهذا يارغد…

أغلقت الكراسة لأنني لم أستطع تحمل شيء بعد… وبدا الاضطراب على أصابع يدي… لم أقو على كبت مشاعري أكثر… كيف… وأنا أقرأ الإعجاب في عين فتاتي برجل ما… أيا كان؟؟

مددت يدي حتى أمسكت بيدها… وشددت عليها… رغد حملقت بي… وكسا الجد وجهها… رمقتها بنظرات مزجت الغيظ والعتاب والرفض والتوسل… لا أدري إن كانت رغد فهمت أيا منها… تجرأت أخيرا وقلت:

“رغد… لا بد… وأنك… تعرفين أنه… طلب يدك مني”.

وتفحصت تعبيراتها بالتفصيل… هربت بناظرها عني… وعلاها الارتباك… وحاولت سحب يدها مني… فشددت عليها أكثر… وقلت:

“إذن…؟؟”

وتأملتها بتركيز شديد… لم تقل شيئا… ولم تحرك ساكنا… غير أن توهج وجهها تفاقم… ما أشعرني بالأم أكثر فأكثر… فشددت على يدها بقوة أكبر… علها تحس بما أعانيه… هذه الحبيبة الخائنة…

قلت:

“ما هو موقفك يا رغد… أخبريني؟؟”

لكنها لم تتفوه بشيء ولم تنظر إلي… أجيبيني يا رغد أرجوك… قولي أنك لا تفكرين في شيء كهذا… وأنك ترين في العالم رجلا غيري أنا… أريحيني أرجوك!.

ولما لم تجب… أرسلتني الأفكار إلى الجنون…

قلت بنيرة عنيفة وقد تفجر الغضب في صوتي:

“تكلمي يا رغد… أطلعيني على ما تفكرين به الآن”.

نبرتي القوية أخافت رغد.. فألقت نظرة وجلة ثم حاولت تحرير يدها من قبضتي وقالت بتوسل:

“أرجوك… اتركني”.

وأرادت الوقوف والهرب بعيدا… غير أنني لم أطلق سراح يدها ووقفنا معا… هي تحاول الابتعاد وأنا أعيق تحركها…

“أرجوك وليد..”

قلت مباشرة:

“أرجوك أنت… أطلعيني على ما يدور في رأسك”.

قفزت دمعة فجأة من عين الصغيرة واجتاحها الحزن…

حرت في تفسير موقفها… قلت:

“أنا من لم يعد يفهمك… ماذا تريدين؟ بمن تفكرين؟”

صاحت رغد ووجهها ينكمش:

“لا أحد…لا شيء… أنا لا أريد أن أتزوج أصلا… أبدا… أنت لن تفهمي..”

وسحبت يدها… وسارعت بالتقاط عكازها ومغادرة المطبخ…

رميت بثقل جسمي على الكرسي… وأسندت رأسي إلى الطاولة… وزفرت زفرة طويلة…

وهذا الموقف العصيب… لم يزد العلاقة بيننا إلا برودا وتباعدا … وبعد أن كنا نلتقي على الأقل على مائدة الطعام, صرنا لا نلتقي إلا في السيارة… وأنا أقلها ذهابا وعودة إلى ومن الجامعة.

أما الأحاديث التي بيننا فقد تضاءلت لحد التلاشي… ولم نعد نكلم بعضنا البعض غير كلمة أو اثنتين في اليوم الواحد.

كان مأزقا شديدا جدا… أثقل كاهلي وأحنى ظهري… إلا أن الورطة التي تلته… تخطت كل شدة وتجاوزت كل حدة… إنها الكارثة التي قصمت ظهري نهائيا…

كانت ليلة أربعاء… وكنت مستلق في غرفة المعيشة, على وشك النوم, حين وردتني مكالمة هاتفية هيجت كل خلايا اليقضة في دماغي, وغيرت مجرى حياتي مائة وثمانين درجة… على الفور…

كان المتصل أبا حسام… وهو لم يتصل بي منذ فترة.

في البداية تجاهلت الاتصال.. فقد كنت أريد الاسترخاء بعيدا عن أي مؤثر خارجي… غير أن إلحاح المتصل… أثار فضولي.

“مرحبا..”

أجبت فتحدث أبو حسام مباشرة:

“مرحبا يا وليد. كيف حالك؟ أين أنت”.

أقلقتني نبرته وسؤاله… فقلت:

“خيرا؟؟”

وفوجئت به يقول:

“هل أنت في المنزل الآن؟؟ أنا عند الباب”.

ماذا؟؟!!

“عند الباب؟؟”

سألت مندهشا فأجاب:

“نعم. فإذا كنت موجودا فافتح لي فهناك ما جئت أخبرك عنه”.

هببت جالسا بهلع… وسألت:

“ما الأمر؟؟”

فقال:

“دعني أدخل أولا”.

وبسرعة ذهبت إلى الفناء وفتحت الباب فوجدت أبا حسام يقف أمام مرآي…

انتابنب الهلع… فوجوده وفي كثل هذا الوقت وبهذه الحال ينذر بالخطر…

قدت الرجل إلى الداخل…وكان يسير بحذر… وذهبنا إلى المجلس الرئيسي وأنا بالكاد أسيطر على ذهولي…

بمجرد أن جلس على المقعد وقبل أي كلام آخر سألته:

“ماذا هناك؟؟”

أبو حسام تلفت يمنة ويسرة… وكأنه يريد أن يستوثق من أن أحدا لا يسمعنا… وكان الجد مجتاحا قسمات وجهه بشكل مخيف…

لطفك يا رب…

رواية انت لي

الحلقة الثامنة و الاربعون الجزء 2

لطفك يا رب…

تحدث أخيرا وقال:

“هناك أمر خطير يجب أن تعرفه وتتصرف حياله فورا يا وليد”.

أفزعتني الجماة, فحملقت به بأوسع عيني… وقلت:

“أي أمر؟؟”

قال وهو يخفت صوته:

“المصادر التي حصلت منها على المعلومات موثوقة مائة في المائة. وأنا أخاطر بإفشائها لك… وقد أتيت سرا لأبلاغك… يجب أن تعيها جيدا وتتصرف حيالها بمنتهى الحذر… وبمنتهى السرعة”.

قلت مضطربا:

“جففت حلقي يا عم… أخبرني ماذا هناك؟؟”

وهنا قرب أبو حسام رأسه مني وقال بصوت حذر:

“يتعلق الأمر… بشقيقك”.

توقف قلبي عن النبض فجأة… وصدري عن التنفس… واجتاحني فزع مهول… رفعت يدي إلى صدري وقلت بفزع:

“ما به شقيقي؟؟”

أبو حسام ركز أنظاره على وجهي وكأنه يقيس مدى الفزع فيه… ثم سأل:

“أهو هنا؟؟”

فقلت باضطراب:

“لا… لكن مابه شقيقي؟ أرجوك أفصح؟؟ هل أصابه شيء؟؟”

هز أبو حسام رأسه بنفي ممزوج بالأسف… ثم قال:

“ليس بعد… لكنه على حافة الخطر…”

ثم استنشق نفسا قويا من فمه وزفره أسفا ثم قال:

“هل تابعت خبر محاولة اغتيال الوزير… الذي نفذته المنظمة المتمردة قبل أيام؟؟”

أجبت بنظرة من عيني… تابع بعدها أبو حسام قائلا:

“أخوك… متورط مع هذه المنظمة… وشارك في العملية بكل تأكيد”.

جفلت… تسمرت في وضعي… تصلبت أطرافي وتيبست عضلاتي… حتى كلمة (ماذا؟؟) لم أقو على النطق بها… أنا ربما… لا أسمع جيدا… ربما أنا نائم؟؟… ماذا… ماذا قلت؟؟

حملقت في أبي حسام… غير مصدق… مذهولا لأبعد حد… فرأيت الجد ينبثق بقوة من عينيه… ثم إذا بي أحس بيده تمسك بكتفي… وصوته يطن في أذني:

“الخبر أكيد تماما… طرت إليك من فوري لأبلغك… أحد الأعضاء وقع في أيدي السلطات وانتزعت منه اعترافات خطيرة… وهي في طريقها للقبض على العناصر جميعا…”

وصمت لحظة… يراقب ردة فعلي وانفعالاتي المذهولة غير المصدقة, ثم أضاف:

“سامر أحد العناصر… متى ما وقع في قبضتهم, فسيعدمونه لا محالة”.

أخيرا استطاع فمي النطق متلعثما هاتفا:

“مستحيل!! م… ما… ما الذي… تقوله؟؟”

شد أبو حسام الضغط على كتفي وقال:

“أنا واثق من معلوماتي تماما…”

شهقت ونطقت:

“ما الذي تقوله؟؟ سامر أخي… عضو في… آه… ماذا؟؟ ما هذا الهراء؟؟”

شد أبو حسام على كتفي بحزم أكبر وقال:

“أعرف أنها صدمة… لكن… هذا ليس وقت المفاجأة يا وليد. شقيقك في خطر.. يجب أن تعمل فورا وفي الحال على إخراجه من البلد… الآن يا وليد.. قبل فوات الآوان”.

زفرت ونظرت من حولي… علي أجد ما يؤكد لي أنني لست في حلم… كنت رافضا تماما القبول بفكرة أن أخي… أخي أنا… آه كلا… مستحيل…

قلت رافضا ومشككا:

“ربما… ربما”.

لكن أبا حسام قال بحزم وجدية بالغين:

“أنا لم أحضر من الشمال إلى الجنوب وبهذه السرعة وهذا الشكل وهذا الوقت لمجرد ( ربما ). وليد… أرجوك أن تستوعب الحقائق بسرعة. حياة شقيقك في خطر حقيقي… إنه متورط مع المنظمة منذ شهور… بعض العناصر هم زملاؤه في العمل في المدينة الصناعية… والعضو المعتقل وتحت وطأة التعذيب أفشى عن خطتهم التالية ومن سينفذها… سينفذونها هنا في المدينة الساحلية قريبا. السلطات ستنصب كمينا وتبتاغهم وترسلهم جميعا إلى الجحيم… لن ينجو إذا ما وقع في قبضتهم… لا مخرج أبدا”.

أمسكت برأسي الذي أحسست به يتأرجح على عنقي… وأغمضت عيني لأحول دون رؤية الأشياء بدأت تتراقص من حولي…

أبو حسام وهو يراني هكذا قال حازما:

“يجب أن تتماسك ياوليد… لا وقت للانهيار… يجب أن تنقذه قبل أن يقبض عليه وحينها… لا أمل في إنقاذه”.

حركت رأسي تأييدا وأنا لا أزال في مرحلة الصدمة, أجبر نفسي على تخطيها وسباق الزمن…

قلت:

“ماذا أفعل؟؟ كيف أتصرف؟؟”

فقال:

“يجب أن نخرج الشاب من البلد بأسرع أسرع ما يمكن… استخدم كل نفوذك وافعل المستحيل لترحيله إلى الخارج. لا أحد يقع في أيدي السلطات ويعود سالما. وخصوصا في قضية بهذه الخطورة… لا تدخر وسيلة مهما كانت”.

مسحت العرق الذي تصبب على وجهي كشلال مياه مالحة… وأخذت أفتح أزرار قميصي العلوية وكأن ذلك يساعد في إزاحة الكتم عن صدري… ثم قلت:

“أنا… لا أعرف أين هو الآن”.

فنظر إلي أبو حسام بانزعاج فأوضحت:

“سافر إلى الشمال الجمعة الماضي, ولم يجب على اتصالاتي”.

ثم قلت مستنتجا بذعر:

“أخشى أنه…”

فقاطعني:

“لا يزال طليقا… وسيشارك في العملية التالية. لا بد وأنه في الجوار الآن..”

في تلك الليلة… انحرفت الكرة الأرضية عن محور دورانها… وتخبطت واصطدمت في جميع الأجرام السماوية… ولم تبق لا نجما ولا قمرا… إلا وصفعته في رأسي…

غادر أبو حسام المنزل… مخلفا إياي وسط كومة ضخمة هائلة… من حطام الكواكب…

بقيت على ذات المقعد… أتلقى الصفعة تلو الأخرى… فاقدا الحواس الخمس… يحسبني الناظر إلي… جثة متصلبة تنتظر من يواريها…

بعد حقبة من الزمن… الله الأعلم بمداها… عادت الروح إلى جسدي واستطعت التحرك…

وقفت وأنا مفلوق الهامة… يأمرني الشقي الأيمن بالسير يمينا ويأمرني الأيسر بالسير يسارا… حتى إذا ما سرت… ترنحت وكدت أختتم صدماتي بارتطام بالجدار…

صعدت السلم وقادتني قدماي إلى غرفة سامر, في الطابق العلوي.

ربما خيل إلي… أنني سأستيقظ من الكابوس وأرى أخي ينام بسلام على سريره…

لكنه لم يكن على سريره! أشعلت المصابيح غير أن النور لم يكتشف شيئا مستترا….

ولا شعوريا أخذت أفتش بين أغراضه…

مسكين وليد! هل خيل لك دماغك المفلوق… أنك ستجد شقيقك الغائب… مختبئا في أحد الأدراج؟؟

ما وجدته في أحد الأدراج… كان صندوقا… إنه ذات الصندوق الذي رأيته في شقة أخي في المدينة التجارية… والذي تغلبت على فضولي ولم أفتحه…!

ولكن لماذا تتحرك يدي لفتحه الآن؟؟ أي من شقي دماغي يأمرها بذلك؟؟

فتحته… أخيرا فتحته ووقع بصري مباشرة على ما فيه!

اشرأب عنقي… جحظت عيناي… تصادمت قطرات دمي وهي تتدفق بتهور وعشوائية من قلبي…

أتعرفون ماذا رأيت؟؟

لا لن تحزروا…!

لقد كان… مسدسا!!!

 

عرض التعليقات (17)